حكايا من سِجن الدَّامون: كيف تورِّث الأسيراتُ تجاربَهنَّ؟

356

عرفتُ أمل طقاطقة في سجن الدامون غرب حيفا، وهي توضِّب أغراضها للرحيل، وفي لغة السجن يقولون: “حامل برشه ونايم عند الأشناف” كنايةً عن اقتراب موعد الإفراج وكذلك عن نفاد الصبر. ورغم أنّني دخلتُ السجن وخرجت منه وأمل ما تزال عند “الأشناف”، إلا أنها كانت تعد بالفعل الأشهر الأخيرة من “سجنة” طالت سبع سنوات، جعلتها أقدمَ أسيرةٍ في المعتقل، وقلّدتها لقبَ “عميدة الأسيرات”. لكنّ ذلك لم يحمِها من تندُرِنا على “كيس ترويحة” أعدّته قبل 18 شهراً من موعد الإفراج عنها.

أن تكونَ الأسيرةُ عميدةً للأسيرات، يعني للأُخريات أنّها صاحبة التجربة الاعتقاليّة الأوسع، وأنَّها شهِدَت وفودَ بقية الأسيرات من بعدها إلى السجن، وعاشت معهنَّ كلَّ ما عِشن وأكثر. هذه ليست مبالغة، فجميع الأسيرات الفلسطينيّات يعشن في سجنٍ وقسمٍ واحد، ويلتقين، لقلِّة عدِدِهن -نسبيّاً- والبالغ اليوم 34 أسيرة، يوميّاً في ساحة “الفورة”.

عميداتُ السِّجن

ليس من السَّهل مُراكمة الخبرة لدى الأسيرات الفلسطينيّات، فعددُهنّ القليل ومحكوميّاتهن المُنخفضة (إذا ما قورنت مع المؤبدات عند الأسرى)، ووجودهنّ في السِّجن ذاته وعزلهنّ من قبل إدارة السجون عن الحركة الأسيرة، يحصرهنّ ويفوّت عليهنّ فرصةَ تبادل الخبرات، ويصعّب عليهن من مَهمّة اجتراح الحلول والتغلّب على الصِعاب. 

في وضعٍ كهذا، تتحوّل آلةُ العذاب التي تُسمّى “البوسطة”، إلى مساحةٍ تنتهزها الأسيرات للقاء الأسرى والتحدث إليهم وتبادل الخبرات معهم. عن ذلك تسرد طقاطقة قصة التقائها بأحد الأسرى، “الله يسهل عليه بدون ذكر أسماء”، والذي أخبرها عن توصّلهم إلى طريقةٍ جديدةٍ للتقطيع بدلاً من غطاء علبة التونة، وهي سكّين صنعوها عبر كسر غطاء الطنجرة وحتّه في الأرض. عادت أمل إلى غرفتها، وقرّرت تجريب صناعة السكين. حاولت، فكسرت غطاء الطنجرة الأوّل، ثمّ الثاني، حتّى اضطرت إلى استخدام غطاءٍ ثالث من المطبخ المُشترك للأسيرات، ثمّ نجحت في صُنع السكين، لكّن “يا فرحة ما تمت”، فقد صادرتْه إدارةُ السجن بعد أيّام. تضحك أمل، وتقول: “ظلّت لينا الجربوني تسأل عن اختفاء الأغطية كل بنات القسم، وروّحت وروّحنا، وما عِرْفَت ولا احنا اعترفنا”. 

أما لينا الجربوني، صاحبة أطول مدّة اعتقالٍ بلغت 15 عاماً، فكانت عميدة الأسيرات قبل أن تُسلِّمَ اللقبَ إلى أمل. خرجت الأسيرات من المُعتقل على إثر صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، وما سبقها من اتفاق بين المقاومة والاحتلال عام 2009، إلا الجربوني وأسيرتين لم يكنّ يعرفنَ كما المقاومة أنّ كلمة “فلسطينيّات” التي نصّت عليها الاتفاقيّة لا تشمل عند العدوّ حاملات الجنسيّة الإسرائيليّة. خرجت الأسيرتان بعدها بمدّة قصيرة حين انتهت محكوميّتهما، فيما بقيت الجربوني وحدها تُراقب صمتَ السجن وفراغه.

السجون ومراكز الاعتقال وفقًا لمؤسسة الضمير لرعاية الاسير وحقوق الانسان | https://www.addameer.org/ar/prisons-and-detention-centers

أخبرها عن توصّلهم إلى طريقةٍ جديدةٍ للتقطيع بدلاً من غطاء علبة التونة، وهي سكّين صنعوها عبر كسر غطاء الطنجرة وحتّه في الأرض

تحكي المحرّرة قاهرة السعدي في وثائقي لقناة “الميادين” عن صرخات الجربوني لها وهي تخرج من القسم مع زميلاتها في الأسر: “احكيلهم أنا فلسطينية”. ثمّ ما تكفّ لاحقاً عن إرسال صرخاتها إلى السعدي في رسائل: “هذه أول مرة أكتب فيها وأنا استقبل أوّل أيّام  العيد لوحدي… أكتب ورفيقي الألم والوجع والجدران والحديد في هذا المكان الموحش”. 

وفي الوقت الذي كان السجن فيه خالياً، كانت الجربوني حارسةً على تجربة الأسيرات اللواتي خرجن، تستقبل الأسيرات الجديدات بكلّ حفاوةٍ وتنقلُ خبرة سنواتٍ من الأسر لهنّ. تقول أمل: “مع ازدياد أعداد الأسيرات أنشأت الجربوني لجان استقبال، مهمة اللجنة تعريف الأسيرة الجديدة بحياة السجن وعاداته”، وتضيف: “كنا نؤكد على كل أسيرة أن هذه المقلاة أو المغرفة كانت حصيلة معاناة، وأنها إذا تلفت يستحيل الحصول على مثلها”.

في إحدى مقابلاتها، تصف الجربوني سنتها الأولى من الاعتقال عام 2002، فتقول: “كنّا جميعنا أسيرات جدد نُعتقل للمرة الأولى، وكانت تعم السجن فوضى شديدة… حتّى اعتُقِلت عطاف عليان، وجاءت لنا رحمة من ربِّ السماء”. كانت عليّان صاحبة تجربةٍ سابقةٍ في الأسر مُقارنةً بالأسيرات الجديدات اللواتي كنّ قد ابتدأن من الصفر؛ دون أيّة خبراتٍ أو مُقتنيات. وقد جرى إعادة اعتقال عطاف بعد تحرّرها وتفريغ سجن النساء من الأسيرات عام 1997 ضمن اتفاق طابا.

في ذلك الوقت، كانت الأسيرات الجديدات، ولقلّة عددهنّ، قد زُجّ بهنّ في أقسامٍ للسجينات الجنائيّات الإسرائيليات، وهو أمرٌ يكاد يكون من أسوأ ما قد يحصل لأسير فلسطينيّ “أمنيّ”. على إثر ذلك، خاضت الأسيراتُ إضراباً عن الطعام عام 2004 انتهى بفصلهنّ عن السجينات الجنائيّات. وقد ساهم وجود عطاف عليان في إحداث فارقٍ في تلك  التجربة ونجاحها، إذ تُشير الجربوني إلى أنّ عليّان هي من شرحت لهنّ عن فكرة الإضراب وآلياتِه ومخاطره.

“بدك اشي.. احكي مع صابرين”

لا تقتصر وعورة وصعوبة البدايات الجديدة على الأسيرات اللواتي يُعتقلن من بعد صفقات التحرير، فافتتاحُ سجونٍ وأقسامٍ جديدةٍ له التأثير ذاته. على إثر هبّة القدس عام 2015، افتتحت إدارة السجون الإسرائيليّة قسماً آخر للأسيرات ليسعَ الأعدادَ المتزايدة من الأسيرات، فأعيد افتتاح قسمُ الأسيرات في سجن الدامون بعد أن اقتصر تواجدهنّ قبل ذلك على سجن هشارون. “بعضنا بلّش ينام على الأرض”، تقول الأسيرة المحرّرة نجوان عودة في إشارة إلى اكتظاظ السجن. 

وزّعت إدارة السجن الأسيرات على سجني هشارون والدامون، وجعلت الأخير مُقتصراً على الأسيرات الجديدات اللواتي ليست لهنّ تجربة في الأسر، وذلك حتّى تستفرد بهنّ. لم تنجح الأسيراتُ حينها في ثني الإدارة عن ذلك القرار، فاختارت ممثلةُ قسم هشارون في حينه، لينا الجربوني، الأسيرةَ صابرين أبو شرار لتمثّل الأسيراتِ في سجن الدامون، وذلك إلى حين إيجاد حلٍّ واجتماع الأسيرات مجدداً. 

توافدت الأسيراتُ الجديدات على القسم الجديد في الدامون، وهنا بدأت إدارةُ السجن مسلسلها الرامي إلى القضاء على الحركة النسائيّة الأسيرة. أولى هذه الخطوات، أن رفضت الإدارة الإقرارَ بحقِّ الأسيرات في اختيار ممثلةٍ لهنّ، إذ أرادت معاملةَ كلِّ أسيرةٍ على حِدَة. 

تحكي عودة أنَّ مديرَ القسم كان يقول لهنّ: “أنا بحكي مع مين ما بدي وقت ما بدي، وأنا هون مسؤول عنكم”. لكنَّ الأسيرات رفضن التعامل معه، “بدك إشي احكي مع صابرين”، هكذا كان الردّ. وكانت إدارةُ السجن، كما تُشير عودة، تستغلُ ذهاب صابرين للمحكمة وغيابها عن القسم للحديث مع الأسيرات اللواتي كن يقابلن ذلك بالرفض. وبقي الحال كذلك حتى استطاعت الأسيراتُ تثبيتَ حقّهن بالتمثيل. تقول عودة إنَّ أكثر ما ساعدهن في مواجهة إدارة السجن، هو نصائح الجربوني لهنّ.

تظاهرة منددة بالعدوان الاسرائيلي فى لندن عام 2008 | رخصة المشاع الابداعي | Alisdare Hickson

أنا بحكي مع مين ما بدي وقت ما بدي، وأنا هون مسؤول عنكم

مدير القسم

وفي الدامون، واجهت الأسيراتُ إجراءاتٍ وسياساتٍ جديدةً تَهدِفُ للتحكم بهنّ وخنقهنّ. مثلاً، وجدن في ساحة الفورة مكتباً لمدير القسم، وكاميراتٍ للمراقبة، الأمر الذي حدّ من حريّتهن في الحركة وممارسة الرياضة. كذلك في الدامون تقع أماكنُ الاستحمام خارج الغرف وهو غير ما اعتدن عليه في هشارون. وسعياً لفرض المزيد من التحكم،  وجدت الأسيرات في الدامون آليةً مختلفةً لإدخال الملابس إلى السجن، إذ كان على الأسيرة إخراجُ قطعةٍ من الملابس مقابلَ كلِّ قطعةٍ جديدةٍ تدخلُ إليها. 

جاءت الأسيراتُ إلى السجن الجديد وكان لا يصلحُ للعيش الآدمي. 18 أسيرةً ينمنَ في غرفةٍ واحدة، ولهنّ حمامٌ واحد. تُضيف عودة: “ما كان في طنجرة ولا كُمْكُم لتسخين المي ولا بلاطة… حتى حرامات ما في”. كذلك، لم تكن هناك غرفة مُخصّصة للمكتبة، ولا حتّى خزانة، كما كان هناك منعٌ لنقل الكتب من هشارون إلى الدامون، وصعوبات شديدة على إدخال الكتب من خلال الأهالي في الزيارات.

هكذا، استغلّت إدارةُ سِجن الدامون انعدامَ التجربة لدى الأسيرات فيه لتفرِض عليهنّ إجراءاتٍ تنكيليّةً ولِتُضيّق عليهنّ الخناق. حتّى اللغة العبريّة، التي تُفيد في التعامل مع الإدارة، واجهت الأسيراتُ صعوباتٍ في فهمها أو التحدث بها، فحاولنّ تعلّمها لاحقاً من العدم. إذ أخذت بعضُهن على عاتقهنّ مُلاحظة الكلمات العبريّة وتدوينها، وسؤال السجّان عن الكلمات التي يقولها ولا يفهمنَها. ليست هذه مهمة بسيطة، خاصّةً أنّ كثيراً من الكلمات التي تعلّمنها كانت تُذكر خلال رحلتهن الشّاقة في البوسطة باتجاه المحكمة، فكان عليهنّ أن يُحافظنَ على التركيز خلال رحلة العذاب تلك ويحفظن ما يسمعن ليعُدن به إلى القسم. توضّح عودة إلى أنّ الوضع في هشارون كان مغايراً، “لأنه بهشارون كانت لينا إلها 13 سنة عم تتعامل مع إدارة السجن، وبحكم الخبرة والقدرة واللغة، كانت قادرة على انتزاع الحقوق… وفرض رأيها”.

في ذلك الوقت، وفي ظلّ عدم وجود وسيلة اتصال، استغلّت الأسيرات في هشارون منفذاً وحيداً، وهو التقائهنّ مع أسيرات الدامون في “معبار” هشارون الذي كنّ مُلزمات على النوم فيه ليلةً في الإياب وليلةً في الذهاب. خلال ذلك، كنّ يحمّلنهن بطاقاتٍ تحتوي على ما يلزمهنّ من وصفات النجاة؛ من طرق إعداد الطعام إلى طرق إعداد المواجهة والدفاع عن حقوقهنّ.

السؤال الذي يُطرح هنا: ماذا لو لم يكن ثمّة أحد يشرح للأسيرات الجديدات أهميّة هذه الأدوات؟ وما هي الاتفاقات المُبرمة بين الأسيرات وإدارة السجن؟ وكيف تتعامل وتواجه الأسيرات سجّانها؟ وكيف تحصّلن حقوقهنّ؟ ربما يصح القول هنا إنّ إعادة اعتقال عليان واستثناء الصفقة للجربوني، على فداحة ذلك، ساهم في نقل الخبرة والمراكمة عليها من جيلٍ إلى جيلٍ جديدٍ من الأسيرات.

هامشٌ لا بدّ منه

يساهم وجود آلاف الأسرى الفلسطينيّين في عشرات الأقسام والسجون إلى استفادتهم من أنظمة السجون وطبيعتها المختلفة، وإلى تناقل مكتسباتهم وخبراتهم. كذلك، يساعدهم امتلاكهم وسيلة تواصل في معرفة احتياجات بعضهم البعض. قال لي مرّة أحدُ الأسرى المحرّرين، إنّ بعضَ الأسرى كانوا يعملون في مطبخ السجن، الأمر الذي مكّنهم من تهريب بعض المكونات غير المسموحة إلى الأقسام، وكانوا يتلقون طلباتٍ من السجون الأخرى بإرسال تلك المواد والمكونات مع الأسرى الذين ينتقلون إلى سجونهم. وليس ذلك فحسب، إنّما ساهم عدد السجون وطبيعتها في اختصاصها، فسجن هداريم مثلاً خصّه الأسرى بالتعليم الجامعي، بينما يختص سجن عوفر باستقبال الأسرى الجدد.

سجن الدامون | هانئ على ويكيميديا | رخصة المشاع الابداعي

كذلك، يُساهم وجود أسرى قضوا ويقضون أحكاماً عاليةً في عملية المراكمة، ليس فقط على صعيد المُقتنيات والأدوات، إنّما أيضاً على صعيد المعارف والخبرات وآليات التعامل مع السجّانين. فالأسر لسنواتٍ طويلةٍ جعل الأسرى على إطلاعٍ غير منقطعٍ بسياسات إدارةِ السجون، وذلك ليس إطلاعاً نظريّاً، بل هم يعرفون شخوصها ونقاط ضعفها وآليات مواجهتها. كما سمحت لهم سنواتُهم الطويلة أن يخوضوا نضالاتٍ ومواجهاتٍ لانتزاع حقوق أكثر، ثبّتوها بتواجدهم على مرّ السنين، ونقلوها من “جيلٍ” إلى “جيل”. خلق هذا الوضع، بالإضافةِ إلى عواملَ أُخرى، حركةً أسيرةً قادرةً على إدارة العلاقة مع السجّان وخلق تنظيمٍ لحياة السجن، ومكّنهم من تبادل قدرٍ هائل من التجارب وأساليب المواجهة وإسناد بعضهم البعض.

على الطرف المُقابل، ساهمت صفقاتُ تحرير الأسرى التي شملت بالعادة جميع الأسيرات، إلى عدم قضاء الأسيرات أحكاماً عالية في السجون. كما لا توجد من بين الأسيرات من هي محكومة بالمؤبد، وأقدمُ أسيرة اليوم هي في عامها السابع في الأسر، وذلك كان على الأسيرات أن يبدأن في كلّ مرّة تفاهماتٍ جديدة مع السجّان، في كلّ قسم وسجن يبدأن فيه.

هذه الحقائق التي ترتبِطُ بعددٍ من العوامل التاريخيّة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة، وضعتْ تحدياً حقيقيّاً وشاقّاً أمام الحركة الأسيرة النسائية في طريقها لِمُراكمة الخبرات والمقتنيات.  يُضاف إلى هذا التحدي، غيابُ أي وسيلة تواصل هاتفيّ، عموميّة كانت أم مُهرّبة، عند الأسيرات، وابتعاد موقع قسمهن عن سجون الأسرى الأمنيّين بما يوحي بعزلهنّ عنهم، ويُعدُّ قسمُ الأشبال القسمَ الأمنيّ الوحيد، غير قسم الأسيرات، في سجن الدامون.

من القلّة

على سيرة قسم الأشبال، فلقد ساعَدَ وجودُهم ووجودُ ممثلين لهم من الأسرى ممن قَضوا عشرات السنوات في المعتقل، على تبادل الاستشارات النضاليّة مع الأسيرات، وحتى تبادل ووصفات الهريسة والمعمول. تذكر طقاطقة أنّ الأشبال في عام 2020 أهدوا الأسيرات “قنينتين” من ورق الدوالي: “هذول القنينتين من قبل عام 2007، وقت كان مسموح للأسرى يدخلوا أغراض”، إذ احتفظ الأشبال بها واستخسروا استخدامها. “كنز مؤجل، وطلع من نصيبنا”، تقول طقاطقة وهي تتبسّم.

وعلى الرغم من الظروف الصعبة، تدبّرت الأسيراتُ أمورهُنّ. تتحدّث طقاطقة عن محاولتهن للطبخ في ظلّ تعرض قسمهنّ للقمع والعزل، ممّا يعني سحب الأدوات الكهربائيّة وحرمانهن الخروج حتى للمطبخ أو “الكانتين” وإحضار أي مأكولات. تقول: “جرّبنا نطبخ على الرديتر (أداة التدفئة في السجن)، عبينا قناني رز ومي، وطعجناها وحطيناها جوا فتحات الرديتر، طبعاً ما زبط نعمل أوزي بس زبط نعمل نسكافية بحليب بعد ساعات من تركهم يتسخنوا، وعممنا الفكرة على باقي الأسيرات”.

وفي قصةٍ أخرى، “كل شيء كان مصدراً لأن نتعلم ونجرب أشياء جديدة”، تقول أمل في إشارة لبرامج التلفاز أو المجلات والجرائد. تشرح: “كل شي كنا نشوفه نجربه، طبعاً ما عنا الإمكانات بس بنلاقي بدائل”، من وصفات طعام، وتدريبات رياضيّة، وأفكارٍ لمسابقات ثقافيّة، “حتى ديكور الزنزانة، كنا نشوف أفكار لغرف في المجلات ونطبقها”. وهكذا يصبح كل عنصر نجح في اختراق حدود السجن قابلاً للتحويل إلى استخدامات مختلفة، فمثلاً حوّلت الأسيرات الشالات (شالات الحجاب) عبر تنسيلها إلى خيوط لاستخدامها في الخياطة.

كل شيء كان مصدراً لأن نتعلم ونجرب أشياء جديدة

بعض “الاختراعات”، كما تسمّيها طقاطقة، كانت قد تعلّمتها من قصص أفراد عائلتها عن السجن، ومن نصائحهم في الزيارات. والدتها مثلاً، قامت مرّة بتغطيس الجوارِب بالعطر، كما علّمها ابنها الأسير؛ جورَب بعطر رجاليّ لمحمد وجورَب بعطرٍ نسائيّ لأمل. يصل الجورب المُغمّس بالعطر مع الملابس المسموح إدخالها، فتقوم الأسيرة بعصرها بالماء في وعاء، ومن ثمّ استخدام الماء وما علق به من أثر للعطر.

يستفيدُ الأسرى والأسيرات من بعضهم البعض، ولا يغلبون في إيجاد طرقٍ تتحايل على قرارات وكاميرات العدوّ. وللبعضّ نصيبٌ أكثر من البعض الآخر، وهو نصيبٌ تبقى حدوده جدران السجن. هذه الجدران، وإن كانت الخبرةُ والتجربة تعملان على هدّها، غير أنّ الإرادة الحرّة أساس ذلك. “بتعرفي شو، في شيء بفطرتنا، حتى لو ما علّمنا حدا، إنّه إذا بدنا إشي من مُحتلنا يعني بدنا ياه، ومن الآخر، رح نعمل كل شي عشان نحققه”، بهذا العناد تقول طقاطقة. وبهذا العناد، خاضت الأسيرات تحدياً قاسياً ومختلفاً، ففي واقعٍ فرضته إدارةُ السجون عليّهن، جعل من المراكمة فعلاً صعباً، استطاعت الأسيرات أن يُراكمنَ ويضفنَ إلى تجربة الحركة الأسيرة ككل، ويكنّ جزءاً من نضالها وسرديّتها. 

تحرّرت أمل طقاطقة بعد 7 سنواتٍ من الأسر، وأبقت على “الكيس المُميّز”، الذي كانت توضبُ فيه أغراضها، في القسم عند الأسيرات وخرجت بكيسٍ عاديّ من أكياس الكانتين. تحرّرت لينا الجربوني بعد 15 سنة من الأسر، بعد أن موّهت موعد خروجها للأسيرات لأنّها لا تقوى على وداعهنّ. ودّعت الأسيرات لينا وأمل، عميدتي الأسيرات لفترتين مختلفتين، وتركنَ ميسون الجبالي عميدةً للأسيرات، تخوض اليوم هي والأسيرات بفطرتهنّ وعنادهنّ وإرادتهنّ معركةً مع السجّان وإدارته، معركة تتجاوز المُراكمة إلى المواجهة.

ليان كايد
WRITEN BY

ليان كايد

خريجة من دائرة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *