ما لم تتعلمه في المدرسة

660

تملك النرويج كما العديد من البلاد الأخرى، تاريخاً مليئاً برهاب الأجانب، والمواقف والإجراءات القائمة على تحديد مجموعة عرقية معينة واعتبارها أكثر قيمةٍ من غيرها. على الرغم من عدم تشريع العنصرية والتمييز وممارستهما من قِبَل السلطات في الوقت الحاضر، فمن الضروري إعادة النظر دائماً وتقييم سياسة النرّوجة Fornorskningspolitikken والتي تُعتَبر أحلك فصول السياسة النرويجية على الإطلاق. ما الذي حصل، وما هي العواقب على مجتمع اليوم؟

كتب المقال:
أسنى ميلليم: فنانة تنتمي لأقلية الكفان Kven، ورئيسة منظمة Kven Kvenungdommen. 

في حصص التاريخ المدرسية يتعلم المرء عن النرويج في القرن التاسع عشر حيث كان جلّ الاهتمام هو البناء الوطني. كانت البلاد قد انفصلت عن الحكم الدانماركي، ودارت النقاشات في العاصمة حول اللغة المكتوبة والنشيد الوطني و العديد من الأمور الأُخرى التي توجّب على النرويج العمل عليها حتى تشعر باستقلالها. أما اللوحات التي تم رسمها في تلك الفترة والموجودة الآن في المتحف الوطنيّ، فتظهر الرومانسية الوطنية في أفضل حالاتها من خلال المناظر الطبيعية الجميلة وحياة الفلاحين المُزدهرة.

الجزء الأقل شهرة من التاريخ يعرفه بشكل أكبر السكان الأصليين والأقليات القومية. يمتلك السكان الساميون Sami الآن صفة السكان الأصليين، بينما تتكون الأقليات القومية من الكفان Kven / النرويجيين الفنلنديين/ واليهود والشعب الروماني/ التتار، فلنديوا الغابات والغجر. المشترك بين جميع هؤلاء هو العلاقة التاريخية الطويلة مع النرويج، التي وبالرغم منها كانوا قد تعرضوا للقمع بشتى الطرق أو تم وسمهم بطريقةٍ سلبية من قِبَل السلطات النرويجية عبر التاريخ. إن حملات التمييز ضد التتار واضطهاد الغجر واليهود هي بعض الأمثلة العديدة على ممارسات السلطات النرويجية تلك. أما في شمال النرويج فقد كانت سياسة “النرّوجة” Fornorskningspolitikken هي الحاسمة لكل من السكان الساميين Sami والكفان Kven. هذا الجزء من التاريخ نادراً ما يتم عرضه في المناهج الدراسية أو في المجتمع بشكلٍ عام.

لغة واحدة وثقافة واحدة وشعب واحد

في خمسينات القرن التاسع عشر عندما تم صياغة السطر الأول من النشيد الوطني ” ja, vi elsker ” من قِبَلْ بيورنستسيارنه بيورنسون Bjørnstjerne Bjørnsson، كان الوضع في شمال النرويج مختلفاً تماماً عما هو عليه في العاصمة. كان النسيج الاجتماعي هناك يتألف من عدة أعراق في ذلك الوقت، وكان كلاً من الكفان Kvenوالساميين Sami والنرويجيين يعيشون جنباً إلى جنب. حيث هاجر العديد منهم من مناطق ما يُعرف الآن بشمال السويد وفنلندا بسبب الحروب والنمو السكاني، ليستقروا على ساحل شمال النرويج حيث كانت ظروف المعيشة والعمل أفضل. تم تصنيف السكان الناطقين بالفنلندية على أنهم كفان Kven. كما تم تسجيل العديد منهم كمواطنين غير نرويجيين وغير ناطقين بالنرويجية، الشيء الذي يتناقض مع تلك الحركة الوطنية الرومانسية التي عملت من أجل دولة واحدة وثقافة واحدة وشعب واحد. بعبارة أُخرى، كان لابد من عمل الكثير في مثل هذا الوضع لجعل الشمال النرويجي جزءاً من المجتمع المتجانس الذي تم بناؤه في الجنوب.

كانت البداية في عام 1851 عندما صادق البرلمان النرويجي على صندوق فينه Finnefondet. حيث كان من المقرر استخدام الأموال الموجودة في الصندوق بشكل استراتيجي لتعليم الساميين Samer والكفان Kvener من أجل تحقيق البناء الوطني في شمال النرويج في ظل التفكير الرومانسي الوطني. حيث لم يكن هناك مجالاً لممارسة التعددية اللغوية والثقافية والتي من الممكن أن تشكل تهديداً للغة النرويجية. تم إرسال المعلمين من الجنوب إلى الشمال، حيث قام هؤلاء المعلمون أولاً بتعلم لغات الساميين  SamiskوالكفانKvensk ثم تم إرسالهم إلى المقاطعات لتعليم اللغة النرويجية للأقليات. كما تم إنشاء المدراس الداخلية، حيث يتم عزل الأطفال عن أسرهم لعدة أسابيع ليتم تعليمهم في بيئةٍ نرويجيةٍ مستقرة. وتمت معاقبة الأطفال لتحدثهم بلغتهم الأم أو لعدم تمكنهم من الإجابة على الأسئلة التي كان يطرحها المعلم باللغة النرويجية التي لم يكونوا يفهمونها. كان يتم دفع رواتب المعلمين بناءً على جودة عملهم من أجل “نرّوجة” الأطفال، كما وتم دفع النقود للآباء الذين كانوا يرسلون أبنائهم طواعيةً لتعلم اللغة النرويجية وذلك مقابل حسن نيّتهم. هذه السياسة أدت إلى فقدان الأطفال لصلتهم بخلفياتهم الثقافية، حيث كان يزور البعض منهم منازلهم وقد نسى لغة آباءه.

الخطر الفنلندي

بلغت سياسة “النرّوجة Fornorskningspolitikken ” ذروتها في بداية القرن العشرين. حيث تم ترسيخ صندوق فينه Finnefondet بشكلٍ جيد وتم الاتفاق على تقديم المزيد من التدابير لتسريع عملية “النرّوجة”. تم تعديل قانون بيع الأراضي في عام 1902 بحيث لا يتمكن من شراء الأراضي وامتلاكها سوى الأشخاص الذين يحملون كنيات نرويجية. وبذلك اختفت كنيات الكفانKven والساميين لتظهر كنيات نرويجية مثل أولسن Olsen أو إساكسن Isaksen أو يوهانسن Johansen.

 وفي النهاية تم منع استخدام كلاً من لغتي الساميينSamisk والكفانKvensk كلغاتٍ مساعدة في المدارس. كما وتم في بعض الحالات في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي البحث عن أشخاصٍ يحملون الجنسية الفنلندية لإرسالهم خارج البلاد، وذلك بغض النظر عن المدة التي مكثوا فيها في النرويج. من بين تلك الحالات، كانت حالة ترحيل أب لأحد العائلات إلى فنلندا، تاركاً وراءه زوجة وسبعة أطفال يحملون الجنسية النرويجية، حتى أنه اضطر إلى اصطحاب حصانه معه بما أنه قد أتى أيضاً من فنلندا.

على الرغم من إلغاء صندوق فينه Finnefondet في عشرينيات القرن الماضي، استمرت سياسة “النرّوجة ”     Fornorskningspolitikken لعدة عقود. لم تترك هذه السياسة ندوبًا عميقة على السكان في شمال النرويج فحسب، بل أدت أيضًا إلى انتشار المواقف السلبية في جميع أنحاء البلاد. في عام 1936 نشر الصحفي آرثر راتشي Arthur Ratche كتاب “الخطر الفنلندي على فنمارك”Finsk fare for Finnmark ، والذي شكك في ولاء شعب الكفان وشعب الساميين. أصبحت فنلندا دولة مستقلة في عام 1917 , حيث شرعت أيضاً ببناء الدولة الخاصة بها. كانت لغة وثقافة الكفان Kven/ النرويجية الفنلندية/ فاعلة في شمال النرويج. لذا فلمن سيكون الولاء هناك في حال نشوب صراعٍ؟ كما وقامت NRK بإنشاء استوديو في فادسو Vadsø المدينة الواقعة في فنمارك والتي تحتوي على كثافة سكانية عالية من الكفنKven. حيث قام الراديو بالبث المجاني للسكان للتشجيع على الاستماع إلى إذاعات الراديو النرويجية. كان البث الإذاعي الفنلندي شائعاً في ذلك الوقت، لذا رأت السلطات بأنه من الضروري إغراق هذا البث من خلال استبداله بالبث النرويجي.

“النرّوجة” التي لم ولن تنتهي

كانت الحرب العالمية الثانية قاتلة بالنسبة لفنمارك Finnmark وشمال ترومس Nord-Troms، حيث تم إحراق معظم الأبنية. كما وتم إجلاء السكان قصراً وهرب العديد منهم وعبروا الحدود إلى السويد. الأمر الذي أدى إلى اختفاء عادات وطرق البناء التقليدية لشعوب السامي Sami والكفان Kven. وعند عودة هؤلاء السكان إلى المناطق التي فرّوا منها تم بناء المنطقة تحت إشراف السلطات أي على الطريقة النرويجية. في خمسينيات القرن الماضي تم إنشاء سجل خاص للحفاظ على السيطرة على المواطنين الفنلنديين المقيمين في النرويج، وفي وقتٍ متأخر من عام 1978 تم وضع خطة سرية في بلدية ستورفيورد Storfjord في مقاطعة شمال ترومس Nord-Troms والواقعة على الحدود مع فنلندا. تهدف هذه الخطة إلى إغلاق ثلاثة أرباع البلدية في وجه الزوار القادمين من فنلندا. تم الكشف أخيراً عن هذه الخطة السرية من قِبَلْ Dagbladet حيث كتبت العنوان “بلدية ستورفيود أصبحت مغلقة بشكلٍ سري”، ” Storfjord kommune blir hemmeligstemplet” ، وبعد أن عارض سكان البلدية الاقتراح بشدة تم إيقاف هذه الخطة.

الطريق إلى الأمام

يختلف الوضع اليوم تماماً لكل من مجتمعات الساميينSamer والكفان Kven والأقليات القومية بشكلٍ عام. كانت قضية ألتا Altasaken في سبعينيات القرن الماضي نقطة تحول بالنسبة للساميين، حيث انطلقت مظاهرات حاشدة ضد محطة الطاقة الكهرومائية والتي كانت ستؤدي إلى سد قرية ماسيMasi الساميّة في فنمارك Finnmark. في أعقاب هذه المظاهرات اكتسب السكان الساميين صفة السكان الأصليين في النرويج، مما استلزم حمايتهم الوطنية والدولية. كما وتم إنشاء البرلمان السامي Sametinget، وتم اعتماد العلم السامي. اليوم يوجد عدد من منظمات الساميين الراسخة والتي تعمل من أجل الحقوق وتنشيط ثقافة ولغة مجتمع الساميين.


إن بيئة الكفان أصغر لكنها تنبض بالحياة. تم الاعتراف بلغة كفان Kvensk كلغة أقلية في النرويج في عام 2008, كما ويتم الاحتفال بيوم شعب الكفان في 16 آذار/ مارس من كل عام. كما تم اعتماد علم الكفان لأول مرة في عام 2018، وتعمل منظمات مثل Kvenungdommen – Kvääninuoret من أجل الحصول على الحقوق وإبراز ونشر ثقافة الكفانKvenkulturen في وقتنا الحالي. كما وقامت العديد من بلديات الشمال النرويجي بوضع اللافتات بأسماء الأماكن بكلا اللغتين السامية Samisk ولغة الكفانKvensk , وذلك لجعل التنوع التاريخي أكثر وضوحاً.


على الرغم من اختلاف الوضع في الوقت الحالي، إلا أن سياسة “النرّوجة” Fornorskningspolitikken لا زالت تلقي بظلالها على المجتمع. يمكن تذكر الحادثة في نهاية عام 2020 عندما اندلع جدلاً في ترومسو Tromsø، حيث تم توجيه ملاحظة من أحد الرّكاب في الحافلة لامرأة شابة تتحدث اللغة السامية لكي تقوم بالتحدث بالنرويجية. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم أيضاً القول لطلابٍ من خلفية كفان Kven بأن ثقافة شعب الكفان تنتمي إلى المتحف وليس إلى المجتمع الحالي.


إن الشعور بالعار الذي لحق كل من شعوب السامي وشعوب الكفان، كان أكبر الآثار الجانبية لسياسة “النرّوجة” Fornorskningspolitikken التي تم فرضها في الشمال النرويجي. فالأطفال الذي عانوا من العواقب السلبية في المدارس الداخلية لا يريدون أن يتعرض أطفالهم الآن لنفس هذه العواقب. لذا فإننا نرى بأن سياسة “النرّوجة” المُمنهجة أخذت موطئ قدمٍ لها ليس فقط داخل المؤسسات، وإنما على طاولة الطعام في المنازل. حيث تم أيضاً تجنّب التحدث بلغة الكفان Kvensk أو لغة الساميين Samisk حتى داخل المنزل واستبدالهما باللغة النرويجية. كبار السن لم يرغبوا في كثيرٍ من الأحيان التحدث عن خلفيتهم الثقافية لحماية أبنائهم مما قد مروا فيه من تجارب. مما يمكننا القول بأن الطريقة التي تم اتباعها لتطبيق “النرّوجة” Fornorskningen ضمنت التحول ليس لجيلٍ واحدٍ فقط، بل لجميع الأجيال القادمة. كما أنه وبسبب الشعور بالعار الناتج عن هذه السياسة، يوجد اليوم أيضاً الكثير ممن لا يعرفون جذورهم العائدة للساميين أو الكفان. يكتشف الكثيرون من هؤلاء تاريخ العائلة في مرحلة متأخرة وذلك بعد فوات الأوان لسؤال والديهم أو أقاربهم المتوفين. الأمر الذي من شأنه أن يولد شوقاً لشيء لم يكن موجوداً لدى المرء من قبل، ويخلق ارتباطاً بهويةٍ كانت موجودة طوال الوقت، ولكن بغياب الشخص على الرغم من أنه على قيد الحياة. لو لم يمتلك العديد من الأشخاص ممن لديهم خلفية شعوب الساميين أو شعوب الكفان الآن المعرفة بما قد حصل، فيمكن للمرء القول وبسهولة بأن سياسة “النرّوجة “Fornorskningen كانت ناجحة.

سواءً كنت تنتمي إلى أقليةٍ قومية أو شعبٍ أصلي أو أقليةٍ جديدة، فإن الرسالة التي يقدمها التاريخ واضحة: كن فخوراً بالخلفية التي أتيت منها، وتشبّث في الإرث الذي تحمله وانقله لأبنائك وأحفادك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *