في رثاء حسان عباس

645

برحيل حسان عباس اليوم فقد السوريون قامة ثقافيّة وإنسانيّة نادرة. يكتب دلير يوسف في رثاء من قال إنّه معلمه وصاحب فضل عليه ويقول “يكاد يكون تأثير حسان عباس في الأجيال الصغيرة، لا يقاربه تأثير أي شخص آخر عمل في الثقافة والأدب”.

كتب المقال:
دلير يوسف، كاتب ومخرج من سوريا، أخرج عدداً من الأفلام السينمائيّة منها: “أمراء النحل” و”منفى” و”بانياس: البدايات” و”حبل غسيل”. صدر له مطبوعًا كتاب بعنوان “حكايات من هذا الزمن” في العام 2014 وكتاب بعنوان “صباح الخير يا أحبّة” في العام 2020. مقيم حالياً في برلين- ألمانيا.

نشرت هذه المادة للمرة الأولى على موقع حكاية ما انحكت/ syriauntold. وهي تنشر هنا بالتعاون والاتفاق معهم

“أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعًا طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي أما غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطيّة وعلمانيّة وفكر نقدي”.

من حوار سابق للدكتور حسان عباس

بدأت النشر صغيرًا، مقالات صغيرة ونصوص أدبيّة وشيئًا ما كنت أسميه شعرًا، أنشرها في مواقع وصحف مختلفة مذ بلغت الثامنة عشرة. في الثالثة والعشرين قلت لنفسي آن الأوان لخطوة أكبر، وكنت حينها قد خرجت لتويّ للمرة الثانية من سوريا. كتبت مقالًا عن الحياة في دمشق وفي الغوطة الشرقيّة وأرسلتها عن طريق تطبيق المسنجر إلى الأستاذ حازم صاغيّة رئيس تحرير جريدة الحياة آنذاك. نشر المقال بعد يومين دون أن يغير فيه حرفًا، وهذا حسب علمي نادر، إذ أنّ محرري جريدة الحياة يفعلون بالمواد المكتوبة التي تصلهم ما يشاؤون.

بهذا فتح عليّ الأستاذ حازم صاغيّة بابًا واسعًا. أستطعت بعدها أن أنشر في كبريات الصحف العربيّة، بناء على طلبهم وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نشرتُ مقالات في الحياة والسفير والنهار والعربي والجديد… كلّ هذا بفضل شجاعة الأستاذ حازم صاغيّة الذي آمن بشاب خارج لتوه من قبضة الوحش الأسد.

كنت حينها في الثالثة والعشرين من عمري، كاتبًا في صحف محترمة وناشطًا في المجتمع المدني السوري في بيروت، وكنت مواظبًا آنذاك على حضور معظم النشاطات الثقافيّة والأدبيّة والسياسيّة التي تخص سوريا.

إنّ استطعنا إطلاق لقب فارس على أحد الأشخاص فيكون هو من القلّة التي يستحقونها فعلًا، وذلك لما فعله من أجل الثقافة السوريّة ومن أجل السوريين خلال سنوات طويلة دون كلل أو ملل.

على هامش إحدى ورشات العمل، نسيت موضوع هذه الورشة، والتي كانت تقام في أحد فنادق بيروت، جلسنا، أنا والدكتور حسان عباس، على طاولة صغيرة لشرب القهوة. حينها كنت أعمل في جمعية سوريّة صغيرة أسستها برفقة أصدقاء أعزاء اسمها “SRDH” وكنّا نخطط لنشاطات مشتركة مع الرابطة السوريّة للمواطنة والتي يرأسها الأستاذ حسان عباس.

حكى لي يومها عن نشاطات الرابطة، وحكى لي عن سلسلة “شهادات سوريّة” التي قاموا بإصدار أول كتاب منها مؤخرًا. قال لي إنّهم يرحبون بأن ينشروا لكتّاب شباب مثلي، وقال بأنّه يحب ما أكتب، إن صادف وقرأ شيء لي فذلك يسعده.

بعدها بشهور أعددت مسودة لكتابي الأول، وأرسلتها له. وأخذ الكتاب دورة حياته، من القراءة الأولى والموافقة والتدقيق والتصميم حتى خروجه إلى المكتبات. وهكذا خرج كتابي الأول “حكايات من هذا الزمن” ضمن سلسلة “شهادات سورية – الكتاب الخامس” إلى النور، بفضل الأستاذ حسان عباس. والذي عاملني منذ اليوم الأول باحترام قل نظيره.

هكذا كان فضل حسان عباس عليّ؛ أدخلني إلى عالم الكتّاب وجعلني كاتبًا له كتاب. أدخلني عالم النشر ووضع قدميّ على هذا الطريق الطويل. كما أنّه كان معلمًا لي، وإن بطريقة غير مباشرة. فمثلي مثل كثير من أبناء جيلي ممن التقى بحسان عباس وعاصره، تعلمت منه التواضع وبذل الجهد من أجل المجتمع والعمل من أجل الآخرين ورفض الاستبداد وحبّ الثقافة.

ان معلمًا قلّ مثيله، وكان قبل كلّ شيء صديقنا كلّنا، رغم فرق العمر الكبير، كان صديق كلّ من قابله، وأكاد أجزم بأنّه ترك أثرًا في حياة كلّ من تعامل معه. رجل نبيل بكل ما لكلمة النبل من معنى، وإنّ استطعنا إطلاق لقب فارس على أحد الأشخاص فيكون هو من القلّة التي يستحقونها فعلًا، وذلك لما فعله من أجل الثقافة السوريّة ومن أجل السوريين خلال سنوات طويلة دون كلل أو ملل. 

من الصعب عليّ أن أكتب الجملة التالية، لكن هي جملة لا بدّ منها: رحل عن عالمنا اليوم الكاتب والباحث والناشط المدني الدكتور حسان عباس.

كاد عمله أن يكون أكبر تأثيرًا وأعمق من عمل وزارة ثقافة في دولة استبداديّة مثل دولنا.

 لو كان لنا بلدٌ يحترمنا، لو كان عندنا بلد يحترم مواطنيه ويقدّر مثقفيه وقاماته الثقافيّة لنُكِست أعلام هذا البلد أيامًا طوالًا، ولأُعلن الحداد العام على رحيل شخص مثل الدكتور حسان عباس، وهو الذي لم يوفر جهدًا على مدى سنوات طويلة ليقارع الاستبداد بكلّ الطرق الممكنة، هو الرجل المثقف الذي لم يوفر جهدًا في نشر الثقافة في كلّ مكان يكون فيه، ويكاد يكون تأثيره في الأجيال الصغيرة، وأقصد بها الأجيال الأصغر منه وخاصة جيلي، لا يقاربه تأثير أي شخص آخر عمل في الثقافة والأدب.

نشر ثقافة السينما حين كانت سوريا مملكة صمت، ساهم في إنشاء النادي السينمائي في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، فكانت لبعض شباب العاصمة، وأنا منهم، فسحة تنفس، ونافذة على عالم آخر لا نعرفه، إن كان بالأفلام التي عرضها النادي أو بالنقاشات التي تلته.

نشر ثقافة المواطنة في الوقت الذي تموت فيه سوريا تحت ضربات طائفيّة وحين كان الناس يُقتلون على الهويّة على حواجز الطائفيين وفي معتقلات الأسديين. ساهم بتأسيس الرابطة السوريّة للمواطنة، وكان أبًا للثقافة السوريّة في بيروت. أعاد إحياء ناديه السينمائي هناك، ونشر كتبًا لكتّاب شباب، وأقام ورشات عمل ونقاشات ونشاطات لا تنتهي خلال سنوات وجوده في بيروت. وكلّ ذلك كان إلى جانب عمله في الناشطيّة الثقافيّة وفي التعليم.

كاد عمله أن يكون أكبر تأثيرًا وأعمق من عمل وزارة ثقافة في دولة استبداديّة مثل دولنا. بالطبع كان أكثر عمقًا وتأثيرًا، فعمله نابع من القلب ممزوج بحنيّته ولطفه النادران، وبابتسامته التي تبعث الطمأنينة والتفاؤل في وجه من يحادثه.

يصف الدكتور حسان نفسه في حوار قديم بأنّه يعمل على صنع التفاؤل، فيقول: “الوضع الذي وصلنا إليه اليوم وضع محزن ولا أريد أن أرش فوق الموت سكرًا، نحن نفقد أصدقاءنا وبيتنا وأرضنا، وشبابنا يفقد مستقبله والأقل شبابًا يفقدون تاريخهم. أنا كشخص حين أجد أن كلّ شيء يدفع للتشاؤم أسأل نفسي مامعنى وجودي في الحياة إذا كنت أرى كلّ الأشياء سوداء فالأفضل أن أموت، ولكن لاأريد أن أموت إذ، لابد من بناء الأمل. التشاؤم برأي أمر طبيعي ولكن التفاؤل أمر إرادي، ولكنني رغم تشاؤمي قليلاً إلا أنني مواطن يصنع التفاؤل.”

حسان عباس، شكرًا لك على كل ما قدمته لنا، وأعدك بأنّ القيم التي زرعتها فينا لن تموت.

حسان عباس، وداعًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *