في السابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أصابت أهالي مجدل شمس فاجعة كبرى بعد سقوط صاروخ في ملعب كرة قدم، ما أدى إلى إصابة وقتل أطفال ومراهقين أثناء تواجدهم في الملعب، لتصبح القرية، ومعها الجولان المحتل، محطّ اهتمام وسائل الإعلام قبل أن تعود إلى النسيان الذي كانت عليه سابقًا. في هذا التحقيق/ الحكاية، نطلّ على أهالي الجولان السوري ومجدل شمس، لنسمع منهم عن مخاوفهم، حياتهم، وحكايتهم.
كتب المقال:
بسمة المهدي
صحافية حرّة وباحثة إعلاميّة مصرية، مقيمة في برلين
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء عندما بدأت الأخبار تردنا تدريجيًا عبر مجموعات واتسآب ووسائل التواصل الاجتماعي: صاروخ نزل في ملعب مجدل شمس. لم أكن خائفًا في البداية، لم أتوقع أضرارًا أو أن يكون هناك أطفال في المكان وقت الحادثة. لكن بعد ذلك بدأت الصور المروّعة بالوصول: أشلاء أطفال على جدار الملعب! كانت الصدمة الأكبر في حياتي. سرعان ما انتشرت الصور المروّعة، وبدأ الأهالي بالتوجّه نحو مجدل شمس في حالة من الغضب والحقد، غير مصدّقين ما حدث. عندما وصلت، كانت رؤية الأهالي الثكلى، خاصة الأمهات، مشهدًا يعجز اللسان عن وصفه.
هذا ما يتذكره الناشط السياسي والثقافي ابن قرية بقعاثا، شمال هضبة الجولان المحتلة، هاني زهوة، عن الواقعة المفجعة يوم السبت السابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي، في قرية مجدل شمس، حيث يعيش حوالي اثنا عشر ألف نسمة، عندما سقط صاروخٌ في ملعبٍ لكرة قدم، فأصاب وقتل أطفالاً ومراهقين أثناء تواجدهم في الملعب.
وأمّا الفنان التشكيلي ومدرّس الفنون في قرية مجدل شمس، وائل طربيه، فيصف ما حدث لموقع “سوريا ما انحكت” بأنه “الفاجعة التي هزّت سكان القرية”، لأنه كان هناك اعتقاد سائد لدى أهالي الجولان أنهم بمنأى عن الصراع، وأنهم ليسوا هدفًا لأي طرف، سواء إسرائيل، لبنان، أو حتى سوريا. كانت التوقّعات أن أي ضرر قد يحدث سيكون نتيجة خطأ، كأن تكون صواريخ طائشة أو فشل في عملية. لكن ما حدث كان صادمًا، خصوصًا أن الضحايا كانوا أطفالاً، وكانت النتيجة مأساوية جدًا.
زهوة يؤكد الأثر العميق للواقعة على الجولانيين قائلًا: “كانت الحادثة كارثية بكلِّ معنى الكلمة، إذ لم يسبق في تاريخ الجولان وأن فقدنا اثني عشر طفلًا أو شخصًا في يوم واحد. الأطفال الذين نجوا يواجهون آثارًا نفسية صعبة للغاية، ويعمل الأخصائيون النفسيون في مجدل شمس على علاجهم، وكذلك علاج الأهالي والأقارب بشكل يومي.”
هذا “اليوم الأسود في تاريخ الجولان” قطع هدوءًا نسبيًا ساد الهضبة المحتلة، المُتاخمة والمُتداخلة مع الحدود اللبنانية، بينما كانت الرقعة الجغرافية للحرب الإسرائيلية على سكان قطاع غزّة المحاصر تتسع يومًا بعد يوم في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، وامتدت سريعًا لتشمل الجبهة الشمالية لإسرائيل على الحدود اللبنانية ردًا على صواريخ حزب الله. هذا ما يؤكده زهوة في حديثه مع “سوريا ما انحكت”، بناءً على مشاهداته، وهو الذي يضطر بحكم عمله كمخبري أسنان للسفر من الجولان باتجاه مدينة كرمئيل في الجليل. يقول: “الوضع الأمني في المنطقة لم يكن متوتّرًا بشكل كبير في ذلك الوقت، خاصّةً فيما يتعلّق بالجبهة اللبنانية، رغم وجود بعض القيود والتعليمات من السلطة المحليّة التابعة لإسرائيل في هضبة الجولان”.
ومع ذلك، كانت وطأة الأيام الأولى من الأسبوع الثاني من أكتوبر/تشرين الأوّل ثقيلة على عدد من سكان قرية مجدل شمس، أكبر القرى السورية في الجولان المحتل، كما تتذكر عالمة الأنثروبولوجيا ماريا كاسترينو، التي تجري منذ عام 2007 بحثًا ميدانيًا مكثفًا (إثنوغرافيًا) وسط مجتمعات سورية تنتمي للطائفة الدينية الموحدين (الدروز) في دمشق وفي هضبة الجولان. هذا ما استشفته من رسائل هاتفية تبادلتها مع صديقها كامل (اسم مستعار)، الذي كان قد التقته في دمشق عام ٢٠٠٩ عند حصوله على درجة جامعية في الأدب الإنجليزي.
تقول كاسترينو إنّ كامل، الذي يعيش مع عائلته في مجدل شمس، كتب لها في الثامن من أكتوبر 2023 أنّ “الأطفال قلقون جدًا”. وأخبرها أنه قام بشراء طعام وماء استعدادًا للحرب، وأنه بقي مع زوجته وطفليهما في الداخل لأكثر من شهر بعد بدء الحرب، حيث يدرسون عبر برنامج “زووم”.
اندلاع الحرب المنتظرة كان له أثره الشخصي على سكان الجولان. “عندما فُتحت الجبهة الشمالية في الأسبوع التالي من السابع من أكتوبر، بدأ إخلاء المستوطنات الإسرائيلية، ممّا أثّر بشكل كبير على سكان هضبة الجولان الذين يعملون في هذه المناطق. على سبيل المثال، فقد الأطباء العرب الذين يعملون في كريات شمونة، التي تم إخلاؤها، عملهم، وهذا أثّر على معيشتهم”، يوضح زهوة، الذي فقد أيضًا عمله في تلك الفترة.
ورغم التوتّرات، عادت الحياة اليومية في الجولان المحتل، بما في ذلك مجدل شمس، إلى طبيعتها تدريجيًا. فَتحت المدارس ودور الحضانة أبوابها، على ما أخبر كامل كاسترينو في رسائلهم المتبادلة خلال الشهور التسعة الأولى من الحرب. ولكن رغم هذه “الحياة الطبيعية”، توجّب على الأهالي سماع أصوات صفارات الإنذار والطائرات بدون طيّار في سماء مجدل شمس، من وقتٍ لآخر، كما أخبرها كامل في أحد رسائله أواخر يونيو/حزيران الماضي: “كل يوم أتعرض لخطر الصواريخ في طريقي إلى العمل، وعند عودتي أواجه نفس الخطر عندما أصل إلى المنزل.”
“منطقة منسيّة حتى تحصل الكوارث”
إعلاميًا، كانت الأنظار مركّزة بالكامل على غزّة، إلى درجةِ تجاهل تصاعد عنف المستوطنين ضدّ سكان الضفّة الغربية، ضمن سياسات الاحتلال القمعية، بينما استمرت “سياساته الاحتوائية” للسكان في منطقة هضبة الجولان، خاصة الأجيال الشابة، على نحو تخصيص ميزانيات للسلطات المحلية. تعتمد هذه السياسة على فكرة أنّ قسمًا من السكان قد أصبحوا مواطنين إسرائيليين، ومع مرور الوقت سيصبح الجميع كذلك، كما يصف الفنان التشكيلي وائل طربيه، الذي يعمل أيضًا مديرًا لبرنامج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مؤسسة المرصد، وهي منظمة حقوق الإنسان الوحيدة في هضبة الجولان المحتل، ومقرّها في مجدل شمس.
هكذا، ظلّت هضبة الجولان وأهلها مُغيّبين إلى حدٍّ كبير عن التغطية الإعلامية الدولية والعربية المتعلّقة بما يُسمّى “الصراع في الشرق الأوسط”، رغم الأهمية الاستراتيجية لموقعها الجغرافي لدولة الاحتلال، منذ أن استولت عليها خلال حرب الأيّام الستة في العام 1967، حيث تتقاطع حدودها مع الأردن ولبنان وفلسطين، وتُعتبر مقرًا للعديد من القواعد العسكرية الإسرائيلية.
وحتى قبل السابع من أكتوبر، كانت الجولان “منطقة منسيّة حتى تحدث الكوارث”، كما يرى طربيه. ويوضح لنا أن “الجولان منسي لأنه يضم عددًا قليلاً من السكان حوالي 28 ألف سوري مقابل حوالي 29 ألف مستوطن”. في السنوات الأخيرة، نشطت حركة الاستيطان في الجولان، ولأوّل مرة منذ سنتين، تجاوز عدد المستوطنين عدد السكان الأصليين في القرى الخمس. يعيشون في مساحة 1200 كيلومتر مربع، في أقصى شمال إسرائيل، لذا لا يظهر الجولان في الإعلام إلا في حالات الكوارث أو عند محاولات استغلال سياسي للهوية الطائفية لسكان المنطقة من الدروز. مضيفًا: “ومنذ احتلالها في العام 1967 وحتى العام 1982، كانت الجولان أيضًا منسيّة من النظام السوري، حتى حدثت (انتفاضة الهوية)، عندما فرضت إسرائيل قانون ضمّ الجولان رسميًا، الذي ينصّ على منح الجنسية الإسرائيلية لسكانها، أمر رفضه معظمهم.”
وبالفعل، عاد الجولانيون إلى صدارة نشرات الأخبار بعد سقوط الصاروخ في ملعب كرة قدم في مجدل شمس.

الإعلام والحقائق المغيّبة
وهكذا، فجأة، عشية السابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أصبحت منطقة الجولان محور تساؤلات إعلامية مكرّرة، مع تردّد اسمها مجددًا بسبب وقوع الكارثة: من يحكمها؟ وأين تقع؟ ومن هم الدروز الذين يعيشون هناك؟ وما هي مجدل شمس التي قد تشعل حربًا بين إسرائيل وحزب الله؟
رغم أن إسرائيل بدأت في الأثناء حربًا على لبنان، إلا أنها لم تُصعّد حينها ضد حزب الله الذي اتهمته مباشرة بإطلاق صاروخ إيراني على الملعب. لكن حربًا من نوعٍ آخر اندلعت؛ أو بالأحرى، معركة إعلامية جديدة قادتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، بدعمٍ من بعض وسائل الإعلام الغربية، بهدف تعزيز فرض سياسات الأمر الواقع الإسرائيلية على هضبة الجولان، المستمرة منذ 69 عامًا، لعلّ أبرزها، فرض الجنسية الإسرائيلية على سكان الجولان. هذا الإجراء قوبل برفض شديد من السكان حينها، حيث أعلنوا إضرابًا عامًا استمر لمدّة ستة أشهر بين شباط/فبراير وتموز/يوليو من العام 1982، في مواجهة هذا التهديد لهويتهم السورية.
قدّمت بعض وسائل الإعلام الدولية صورة مضلّلة عن هوية أهالي الجولان تحت الاحتلال، خلال تغطية فاجعة مجدل شمس. على سبيل المثال، تعرّضت القناة العامة الألمانية الثانية لانتقادات حادة بعد وصفها للحادثة بـ”هجوم قاتل على المدنيين الإسرائيليين” في الجولان، مقتبسة بشكل مباشر من الجيش الإسرائيلي. القناة اعتذرت لاحقًا عن تبني هذه الرواية دون توضيح الحقائق لجمهورها.
هذا التوصيف الإعلامي يتجاهل حقيقة أنّ الأمم المتحدة تعتبر هضبة الجولان أراضٍ سورية محتلة. كما أنه ينكر ما تعرّض له سكان هذه المنطقة خلال الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1967، التي وصفتها كاسترينو في مقابلة مع “سوريا ما انحكت” بأنها شهدت “أكبر عملية تطهير عرقي في التاريخ” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حسب دراسة أجرتها المرصد حول المجتمعات السكنية السورية التي دمرتها إسرائيل بعد احتلال الجولان في عام 1967.
وأوضحت كاسترينو: “تم تهجير 95% من السكان السوريين الأصليين قسراً، ولم يتبق سوى خمس قرى من أصل 340 قرية ومزرعة. كانت أغلبية درزية تسكن أربع من هذه القرى (مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية). أما سكان قرية الغجر، فهم من أتباع الطائفة العلوية. لم يتبق آنذاك سوى 6,011 شخصًا، من أصل 142,000 نسمة.” أما عن الوضع القانوني لأهالي الجولان، يوضّح طربيه أن الأغلبية الساحقة من سكان الجولان، حوالي 75-80%، يحملون جنسية غير معرّفة، باستثناء من طلبوا الحصول على الجنسية الإسرائيلية وأصبحوا مواطنين إسرائيليين. يقول: “شأن السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية، نحن لا نملك جوازات سفر، بل نحمل (الوثيقة الصفراء) المُخصّصة للمقيمين الدائمين وفق القوانين الإسرائيلية، أي أننا مقيمون دائمون ولسنا مواطنين في دولة إسرائيل.”
هذا الخطأ الإعلامي حول هوية سكان الجولان وانتماءاتهم الوطنية ليس حادثة منعزلة، بل هو جزء من سردية إعلامية غربية وإسرائيلية مستمرة منذ ما قبل السابع من أكتوبر، واستمرت خلال عام كامل من إبادة الفلسطينيين في قطاع غزّة. في الأشهر التي سبقت حادثة مجدل شمس، كانت الحياة في الجولان تُصوّر على أنها طبيعية تمامًا، حيث استمر الناس في أنشطتهم اليومية مثل زيارة المقاهي والمطاعم. يوضح طربيه أن الإعلام الإسرائيلي كان المسيطر الوحيد في تلك الفترة، مما أدى إلى تهميش أي أصوات معارضة أو مؤيدة لفلسطينيي الجولان أو بين فلسطينيي عرب الـ48.

“الكرت الطائفي” خلال الحرب على غزّة
في هذا المناخ المصطنع والمفرّغ من العمل السياسي، يرى الناشط السياسي والثقافي هاني زهوة، الذي وُلد في بداية الألفية لعائلة درزية متدينة وتشكّل وعيه السياسي خلال السنوات العصيبة التي مرّت على سوريا منذ العام 2012، أن محادثتي معه عبر برنامج “زووم”، “فرصة لم تتح له منذ فترة طويلة” ليكون منسجمًا مع قناعاته، ويتحدث عنها بكل وضوح. قدّم نفسه كـ “عربي سوري، كهويّة هذه المنطقة (الجولان)”. أكد أنه ليس فقط درزيًا، بل يحمل هويّة متكاملة بثلاث مكونات: القومية العربية، الهوية الوطنية السورية، والهوية الدينية الدرزية. وأضاف أن المكوّن الديني بالنسبة له هامشي وليس الأساس في تشكيل هويته.
رغم اختلاف الأجيال، تشابهت إجابة طربيه مع زهوة، الذي عرّف نفسه هو الآخر كـ “عربي سوري موجود تحت الاحتلال”، واعتبر أن التمسّك بالانتماء إلى سوريا هو “فعل مقاومة” ضد محاولات إسرائيل المستمرة منذ عقود لتفتيت هويتهم السورية والعربية، وتحويلهم إلى طائفة درزية منفصلة.
بعد ست سنوات من احتلال الجولان في العام 1974، اعتمد الاحتلال الإسرائيلي في إحكام قبضته على سكانها على “الكرت الطائفي” بغرض خلق تماهي تام بين دروز إسرائيل ودروز الجولان، كما أشار طربيه قائلاً: “عمدت إسرائيل إلى تأسيس مناهج تعليمية لأتباع الطائفة الدرزية،تهدف إلى بناء هوية جديدة للسوريين على غرار ما فعلت مع دروز إسرائيل.. لكن الفارق بيننا واضح. إسرائيل تحاول أن تضعنا جميعًا في سلة واحدة”.
بدورها توضح كاسترينو أن “السبب وراء ذلك هو الافتراض الاستعماري البسيط الذي يقول إن الدين يساوي السياسة… أي أن وجود نفس الدين يعني أن الناس سيكون لديهم نفس النوع من التوجهات السياسية”.
خلال العام الماضي، انعكست بوضوح سياسة “السلة الواحدة” ليس فقط في الإعلام الإسرائيلي، ولكن أيضًا في التغطية الإعلامية الغربية المجتزأة حول موقف أهل الجولان من حرب الإبادة. على سبيل المثال، أوحى تقرير مصوّر على قناة فرانس٢٤ تحت عنوان “جنود الدروز العرب فخورون بالخدمة في حرب إسرائيل” بأن دروز الجولان ودروز إسرائيل هم “كيان واحد”، متجاهلاً حقيقة أن معظم السوريين في الجولان عديمو الجنسية ويرفضون التجنيد في الجيش الإسرائيلي.
حتى عندما عاد أهل هضبة الجولان إلى صدارة نشرات الأخبار الدولية بسبب فاجعة مقتل أطفال قرية مجدل شمس، كانت التغطية الإعلامية الغربية، إن لم تصفهم كـ “مواطنين إسرائيليين” كما فعلت محطة التلفزيون الألمانية، تركّز فقط على كونهم دروزًا وعلى قريتهم كـ “قرية درزية”.
بالتوازي، لم تُفوّت إسرائيل الفرصة لتعزيز مشروعها في خلق “هوية مصطنعة” لأهالي هضبة الجولان، على غرار المشروع المستمر منذ الخمسينات لخلق “الهوية الدرزية الإسرائيلية” عبر إنتاج “الاختلاف العرقي”، كما أوضحت الدكتورة كاسترينو.
يروي وائل طربيه، أنه عقب حادث مجدل شمس، “هرع قادة الاحتلال الإسرائيلي إلى الأرض فور وقوع الحادث، وحاول نتنياهو وسموتريتش ووزراء آخرون تصويره كـ عمل مقصود من حزب الله (الشيعي)، لقتل أطفال مجدل شمس الدروز”. وفي الوقت نفسه، حاولت السلطة المحلية التابعة لإسرائيل السيطرة على طقوس الجنازة بنقلها إلى ملعب كرة القدم تحت إشرافها، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب إصرار الأهالي على دفن الأطفال بالطريقة التقليدية، كما تم طرد رموز الحكومة الإسرائيلية من المكان.
صمت ما بعد السابع من أكتوبر
يشرح طربيه أن الوضع الحالي يمثل تباينًا كبيرًا عن السابق، حيث كان أهل الجولان يخرجون عادةً ببيانات تضامن أو يرسلون وفودًا لدعم القضايا الفلسطينية في أوقات الأزمات. لكن منذ السابع من أكتوبر، توقفت تلك التحركات السياسية العلنية. يقول عن واقعه في مجدل شمس خلال تلك الأشهر: “بعد 7 أكتوبر، تعيش إسرائيل تحت قوانين طوارئ صارمة، وبعض هذه القوانين مخيفة في تعدّيها على الحقوق الأساسية. مثلاً، استهلاك محتوى إعلامي معيّن قد يعرّض أي عربي للسجن لمدّة تصل إلى ثلاث سنوات. مجرد متابعة صفحة على إنستغرام أو فيسبوك تُعتبر معادية لإسرائيل قد تؤدي إلى اعتقال فوري… وفي مجتمع قروي صغير مثل مجدل شمس، لا تحتاج السلطات المحلية التابعة لإسرائيل سوى أن تقوم باستدعاء شخص ما للتحقيق أو احتجازه لبضعة أيام، حتى تنتشر الأخبار بسرعة، مما يشكل تحذيرًا واضحًا للآخرين. وهذا يفسر عدم وجود تقارير حقوقية عن مثل هذه التهديدات”.
ويشير إلى أن مناخ القمع والخوف مع قوانين الطوارئ خلق “هدوءًا مصطنعًا”، بمعنى أن “هناك نوعًا من الهدوء غير الحقيقي… الاصطناعي. الناس يذهبون إلى العمل ويعودون في صمت، لكن هذا لا يعبّر عن ما يشعرون به في قلوبهم”، موضحًا أنه توقف عن الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي، لتجنيب نفسه “مخاطرة كبيرة”.
الكثير من الصواريخ العابرة والقليل من صفارات الإنذار
رغم عودة الاهتمام العالمي إلى المذبحة المستمرة في غزّة، إلا أن حياة الجولانيين تغيّرت بعد 27 يوليو/تموز. فبعد أن كان الاهتمام بصفارات الإنذار محدودًا سابقًا، باتت أيّة صفارة إنذار كفيلة بإدخال جميع سكان الجولان إلى الملاجئ. “حالة الخوف والهلع أصبحت قوية جدًا بين الأهالي”، يقول هاني زهوة واصفًا الأجواء في قريته بقعاثا.
ومع التصعيد الأخير على الجبهة الشمالية، بدءًا من اغتيال القيادي في حزب الله، فؤاد شكر، وصولًا إلى زعيم الحزب حسن نصر الله، والعمليات العسكرية المحدودة التي تنفذها إسرائيل في جنوب لبنان، تسود أجواء من الحذر والترقب. وبينما تتعرض تل أبيب لهجمات بالصواريخ، يقول زهوة: “نسمع بوضوح واستمرار أصوات القصف في المنطقة الشمالية، لكن لا جديد عندنا، من ناحية صفارات الإنذار أو تعليمات الجبهة الداخلية. الوضع هنا مستقر إلى حد ما. سُمعت صفارات الإنذار قبل يومين في قريتنا، للمرة الأولى منذ فترة طويلة”.
ومع ذلك، يلاحظ زهوة الاختلاف الواضح بين الوضع في الجولان والمنطقة الشمالية في إسرائيل، حيث كان يعمل. يقول: “الوضع هناك صعب جدًا، حيث تُسمع صفارات الإنذار بشكل متكرر، وهناك انخفاض واضح في ساعات العمل بسبب هذه الظروف. نلاحظ أيضًا تحركات الجيش في الشوارع، والأجواء ككل شبيهة بالحرب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. نرى فقاعات الدخان نتيجة تصدّي القبة الحديدية للصواريخ، وصفارات الإنذار تُسمع بوضوح”.
يوضح زهوة أن المدارس معطّلة منذ بدء التصعيد في هضبة الجولان، وتصدر السلطات المحلية تعليمات يومية تحذّر المزارعين من التواجد في الحقول، وتحثّ السكان على البقاء في أماكن آمنة. ويشير إلى أن الإجراءات الطارئة التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلية تطبّق على قرى الجولان، كما تطبّق على المستوطنات الشمالية المحاذية للحدود مع لبنان.
في مجدل شمس، ما زال المجتمع في حالة صدمة نفسية منذ حادثة مقتل الأطفال، وباتت القرية الآن في “عين العاصفة”، كما يشعر طربيه. فهي النقطة الهادئة وسط اضطرابات هائلة في المنطقة المحيطة، من لبنان إلى فلسطين. ورغم أن قرى الجولان، بما فيها مجدل شمس، ليست أهدافًا مباشرة للعمليات العسكرية، إلا أن الصواريخ تمر فوق القرى يوميًا، ما يجعل المنازل تهتزّ مع كل غارة.
في هذا المناخ المليء بالتوتر والصمت الحذر، يجد أهالي هضبة الجولان، المتمسكون بهويّاتهم العربية والسورية مثل زهوة وطربيه، صعوبة في التعبير العلني عن مواقفهم السياسية بسبب القوانين والقمع الإسرائيلي. يشاركنا طربيه، البالغ من العمر 56 عامًا، مشاعره الشخصية تجاه الأحداث الحالية عبر متابعته للأخبار. يقول: “أي شخص يعتبر نفسه جزءًا من الثقافة والحضارة العربية الشاملة يجب أن يشعر بعمق المأساة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، من الإبادة الحضارية إلى تركهم فريسة لوحشية المذابح دون دعم. هذه المأساة ليست منفصلة، بل هي امتداد لما بدأ مع الشعب السوري. شخصيًا، وكثيرون مثلي، نعيش هذا الشعور منذ العام 2012، حين تم تشويه الثورة السورية وتحريف مسارها واستغلالها. نشعر وكأننا نتعرض لإبادة معنوية، وحاليًا يشهد الشعب الفلسطيني واللبناني إبادة مادية وجسدية.” أما زهوة، البالغ من العمر 24 عامًا، فيستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لمقاومة رمزية. تحت خانة تعريفه على فيسبوك، كتب: “إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح… سوري، حرية للأبد.”
مصدر النسخة العربية من هذا المقال هو موقع SyriaUntold.