حوار مطول مع الحقوقيّ محمد العبدالله….. أيّة عدالةٍ انتقالية تحتاجها سوريا لأجل سلمٍ أهليّ مديد؟

71

تنشر هذه المادة ضمن ملف يحمل عنوان: “في ظلّ الأسد: كيف أدار النظام سوريا لخمسة عقود؟” بالتعاون والشراكة بين حكاية ما انحكت ومجلة دار))

عمليات الانتقام الفردية، وإفلات اقتصاديين محسوبين على الأسد من الاعتقال، ومعرفة مصير المغيبين قسريًا، قضايا تهزّ السلم الأهلي في سوريا في المرحلة التالية لسقوط الأسد، ما يجعل العدالة الانتقالية مطلبًا شعبيًا، ومادةً للنقاش بين مختلف شرائح الشعب السوري.

يبدو كثيرٌ من المقترحات المطروحة لأجل عدالةٍ انتقالية في هذه الأثناء وكأنها مقتبسة بالكامل من دول أخرى، من دون أن تكون ملائمة للسياق السوري.

حكاية ما انحكت ومجلة دارالتقتا محمد العبدالله، مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، ليشاركنا رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه العدالة الانتقالية في سوريا، وتقييمه لتعامل الإدارة المؤقتة للبلاد مع الملف حتى الآن، ومصير المحاكمات الأوروبية للجناة السوريين.

ما هو متأكدٌ منه في هذا الحوار، الذي أجريناه عبر زووم، هو أن أية عمليات قتل انتقامية خارج إطار القانون، خاصة لعتاة مجرمي نظام الأسد، تعني بأننا لن نعرف مصير أحباء العديد من السوريين/ات. قد تكشف تحليلات الحمض النووي واستكشاف مواقع المقابر الجماعية عن دفن أحدهم فيها، لكن السوريون/ات يفقدون بمقتل هؤلاء، فرصة معرفة تفاصيل ما جرى مع أحبائهم قبيل مقتلهم، والظروف التي رافقتها.

أُجري الحوار في ١٥ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٥. واختُصِرت النسخة المكتوبة وحُرّرتْ بغرض التوضيح.

معالجة حكومة الشرع لملف العدالة

*كشف فيديو نشره يوتيوبر لأحمد الشرع، للمرة الأولى ربما، كيف يفكر حيال العدالة الانتقالية، وما تعليقه على اعتباره وعود الأمان، التي أطلقها خلال عملية ردع العدوان، سارية حتى بعد سقوط النظام، وبذلك يعفو عن مرتكبي الجرائم غير الممنهجة على حد توصيفه، هل يحقّ له ذلك، كقائد مؤقت للبلاد؟

لا يمكن لسلطةٍ انتقالية أو مؤقتة منح عفو عام، هذا ليس من صلاحياتها. ما يعني حتى لو كان لدى الشرع توجّهٌ لمنح عفوٍ عام، فذاك ليس من صلاحياته. إن كان قد منح وعودًا، فهذه مشكلة عليه حلها مع الذين وعدهم. إن خرج أحد المقاتلين السابقين أو مرتكبو الانتهاكات إلى الخارج، ستكون قيمة العفو مساوية للورق الذي كُتب عليه، لا شيء. هكذا قد يحاكمون في هولندا أو ألمانيا أو فرنسا أو غيرها من الدول. والأهم هنا هو أنه لا يمكن لأحد أن يصالح على الحقوق الشخصية. من طبيعة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أنها لا تسقط بالعفو العام، ولا تسقط بالتقادم، ولا يمكن لأحد أن يصالح على هذه الحقوق. ناهيك عن كونها حساسة بالنسبة للأهالي والضحايا، الذين سيقولون: من قال لك بأننا سنسامح؟ حتى الدول التي قامت فيها آليات المصالحة، ارتبطت لديها بآليات للحقيقة، ويتم التعامل مع المتهمين على مبدأ “قولوا لنا ماذا حصل مع المعتقلين ونعدكم بألا نعدمكم بعدها، أو قولوا لنا ما الذي حدث مع المفقودين ونعدكم بتخفيف الأحكام. نعد من يقدم معلوماتٍ تُفضي إلى كشف مصير بعض الأشخاص بالحصول على عفو”. جنوب إفريقيا هي من أكثر الحالات المعروفة في التداول العام. استفاد حوالي سبعة آلاف شخص من فكرة المصالحة والعفو، حال اعترافهمأو مساعدتهم بتقديم معلومات. استفاد حوالي ١٢٪ أي حوالي ٨٠٠ شخص من العفو، لأن الآخرين أدلوا بمعلوماتٍ ناقصة ولم يساعدوا في الكشف عن مصير بعض ضحايا حقبة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. لذلك مجدداً، لا يمكن منح عفوٍ بالمطلق أو مقابل تسهيلات عسكرية بعدم القتال مثلًا، أي عن جرائم ارتكبوها ضد آخرين. الملف إشكالي عن بكرة أبيه. يزيد من تعقيده وجود شخصٍ مثل وزير العدل شادي الويسي، لأن كل طرف لن يريد أن يكون جزءًا من المحاكمة أو أن تشمله. وجوده الآن قد يعزز فكرة أن العفو أفضل لأجل البلد ونحتاجه لأجل السلم، ومحاولة تمرير العفو فقط لأجل الحيلولة دون مساءلة شخصياتٍ من هيئة تحرير الشام، ارتكبت انتهاكاتٍ وجرائم حرب، كتلك التي شاهدنا لشادي الويسي، عندما كان قاضيًا لدى جبهة النصرة. هذا الجو الذي فرضه هذا النقاش على البلد ، من دون اشراك الشعب السوري ومجتمع الضحايا فيه، خطير ولا يؤسس لسلم دائم. ووضع الناس في تصادمٍ بين فكرتي السلم الأهلي والعدالة، هي مقارنة مغلوطة، الهدف منها القفز على حقوق الناس وتجاوزها. على العكس، الدول التي قامت فيها آليات عدالة هي التي أسست لسلمٍ أهلي أكثر استدامة وأكثر تجذرًا في المجتمع، لأنه حينها فقط سيُحاسب من يرتكب انتهاكات. أكثر الأمثلة قربًا لنا وأسوؤها هو لبنان. فكرة العفو العام في العام ١٩٩١ والعفو عن المجرمين خلال الحرب الأهلية خلال ١٥ عامًا أسست لبلدٍ تحكمه الفوضى والسلاح والميلشيات والطوائف. للأسف يبدو أن هذه التجربة ستتكرر ولن تكون لبنان آخر دولة تشهدها.

*يشار في هذا السياق إلى تمتع الإدارة الحالية بما يُسمّى شرعية ثورية أو شرعية انتقالية، يخولها اتخاذ هكذا قرارات.

ليس هناك ما يُسمّى شرعية ثورية، هذا رأيٌ عام شائع عن كون هذه السلطة تعجبنا أم لا. لكن كيف تختبر ذلك؟ أنت بحاجة إلى انتخابات أو الاستفتاء أو الأصوات والذهاب في عملية دستورية. وبغضّ النظر عن إذا كان الشعب معجبًا بأحمد الشرع أم لا، حتى إن كانت هذه السلطة شرعية، فليس من صلاحية السلطة الانتقالية إصدار عفو عام. المتعب والمربك في هذا الملف هو أنه لم يصدر عفوٌ عام، ونحن متروكون لنلتقط الكلام من مقابلاتٍ مع يوتيوبر هنا وتيكتوكر هناك. بالعودة إلى كلام أحمد الشرع عن الحق الشخصي، يقول إنه سيضرّ بناء الدولة بأكمله، ثم يعود ليقول بأن من لديه حقٌّ شخصي فليذهب إلى المحاكم. حسنًا، تقول إنّ من يطالبني بحقٍّ شخصي سأقول له: لقد جئت لك بسوريا، فهل سنسقط الحقوق الشخصية؟ تلاحظ في كل مراسيم العفو التي أصدرها المجرم بشار الأسد، أنه كان يحاول لعب دور القانوني، فيشير فيها إلى أنه “يستثنى من العفو دعاوى الحق الشخصي حتى إسقاطها أو المصالحة عليها من قبل إصحابها”. وهذه لغة قانونية، وبصرف النظر عن قائلها، موجودة في القوانين السورية. قانون العقوبات السورية يعود بالمناسبة إلى العام ١٩٤٩ ولا علاقة له ببيت الأسد. هناك تشويه له باعتباره قوانين بشار الأسد. هذا يسري أيضاً على القانون المدني والعقوبات وأصول المحاكمات الجزائية. إذ أنّ الشعب السوري والبرلمان السوري المنتخب بعد الاستقلال عن فرنسا، هو من عمل على معظم المجموعات التشريعية. طبعًا أدخل حافظ ثم بشار الأسد إضافاتٍ عليها، وهذه يمكن إزالتها وإرسالها إلى القمامة مع بشار الأسد.

لذلك فكرة العفو العام والاستناد إلى الشرعية الثورية غير واقعية وغير منطقية، إلا إن أُريد تحويل هؤلاء إلى محبوسين داخل سوريا، ليتم التعامل معهم شأن جميل حسن وعلي مملوك وعبد السلام محمود، إذا سافروا إلى الخارج سيواجهون دعاوى ترفعها عليهم منظماتٌ حقوقية. هذا العفو العام لن يكون ذا قيمة.

*هذا يسري أيضاً على كبار الضباط الذين أُطلِق سراحهم بعد إجراء تسويةٍ معهم مثل طلال مخلوف، ما رأيك في هذا التعامل التفريقي بين كبار المتهمين بارتكاب جرائم وبين الصغار الذين يتعرضون للاعتقال؟

هذه تحديدًا من نقاط التعقيد أو التشويش. نعود هنا إلى كلام الشرع الذي استثنى من العفو من تلطخت يديه بالدماء، مشيرًا إلى مجزرة الحولة مثلاً، محاولًا أن يشير إلى أكثر الجرائم فداحة،  وأتمنى أن تكون هذه نظرته للموضوع، لأن هذا ما تقوله معايير محكمة الجنايات الدولية، التركيز على أكثر الجرائم خطورة، فتأخذ المسؤول العسكري الأعلى رتبة مثلًا. لكن تنظر إلى الواقع فتجد طلال مخلوف، قائدٌ في الحرس الجمهوري لعدة سنوات ثم قائد الفيلق الثاني، جالسًا في منزله. إن لم يكن هناك دمٌ على يد طلال مخلوف، فهو يتحمل مسؤولية استخدام الحرس الجمهوري والفيلق الثاني للسلاح الكيمياوي. هذا إن لم نتحدث عن كل الجرائم الأخرى.

عندما تشاهد فيديوهات التمشيط في حمص، التي صورها عناصر من إدارة العمليات العسكرية، تجد فيها انتهاكات، كإجبار الناس على النباح. عندما تنظر إلى الفئة العمرية لهؤلاء، تجدها بين ٢٠ و٣٠ عاماً، لذا فهي لا تتناسب مع كونهم من رتب عليا، بل سيكون أعلاهم رتبة رقيبًا. ومن ثم ترى لواءً كمخلوف جالساً في منزله بعد تسليم مسدسيه. لنكن واقعيين، هناك طرفان تقاتلا، هناك طرفٌ ارتكب مجازر ضد الشعب السوري هو النظام، وطرفٌ حمل السلاح للدفاع عن نفسه، وصلت الأمور في النهاية إلى تسوية وشراء قيادات عسكرية، مقابل تسهيل الدخول وتجنيب دمشق حمام دم، هذا ممتاز.

هناك بعض الوعود التي قطعت في هذا الإطار ربما.هل على هيئة تحرير الشام الإيفاء بهذه الوعود؟ هذه مسؤولية الهيئة وليست مسؤولية الضحايا، لكن ينبغي أن يكون هناك مصارحة في هذا الموضوع، الذي لا يمكن مقاربته بجلسة دردشة غير رسمية، من دون اشراك وزارة العدل ومجموعات الضحايا وأطراف أخرى سورية.. ربما مشرعين. الكلام الذي يقوله بسيط وشعبي يحاول به الوصول إلى الشارع، لكنه متناقض. ربما لا ندرك كسوريين ذلك، لكلٍّ منا منظوره للانتهاك الذي وقع عليه. أحيانًا تصادف ردود فعل سلبية، كأن يقول أحدهم “جلّ ما اعتقلت فيه هو شهران أو عام”، هناك أناس يعتبرون الاعتقال الذي مروا به أسوأ جريمةٍ حصلت وهو أكبر ضحية لما جرى في سوريا. هناك أناس يرون أن رؤية أبنائهم يموتون أمامهم هو أسوأ ما حصل. بعضهم يعتبر التعذيب الذي تعرضله أسوأ جريمة. وصولًا إلى ما يسمى تراتبية الضحايا. وهي فكرةُ خطيرة للغاية وحصلت في معظم النزاعات المسلحة والثورات. كلّ شخص يعتبر نفسه أكبر ضحية، الأكثر تضررًا. ينطبق الأمر أيضًا على من لجأ إلى أوروبا برًا، عابرًا البحر والغابات. لكن ليس بوسع أحدٍ تحديد من هو أكبر ضحية، الشعب السوري كلّه كان ضحية، كلٌّ من مفهومه يعتبر أنه الضحية الأكبر. لذلك لا يجوز لأحد المساس بحقوق الضحايا والمسامحة على هذه الانتهاكات من دون العودة إلى مجتمع الضحايا.  ينبغي أن يكون هناك على الأقل آليات الحقيقة، وجلب الوثائق وسجاني معتقل صيدنايا. وفقاً لإحصائيات وتحقيقات رابطة معتقلي صيدنايا،كان من المتوقع أن يكون هناك ما بين ٣٠ و٣٥ ألف معتقلاً قد مروا على صيدنايا، أين هم هؤلاء؟ هل أخذهم هؤلاء الضباط؟ هل أفرج عنهم؟ هل تم اعدامهم قبل يومين من الوصول إلى دمشق؟ هذه الأسئلة يطرحها الناس والسلطة ملزمة بالرد عليها، حتى لو لم تكن هي من قامت بهذه الأفعال. لم يقتل أحمد الشرع هؤلاء بالتأكيد، لكنه في موقعٍ يمكنه من اتخاذ قرار بفتح تحقيقات أو إغلاقها حول التعامل مع أجهزة الأمن والوثائق والسماح بـ“تعفيش” سجن صيدنايا. خلال الفوضى التي تسبب بها التيكتوكرز لم يبقَ حائط في السجن دون أن يثقب، رغم نفينا ونفي رابطة معتقلي صيدنايا والدفاع المدني (وجود زنازين مخفية). رغم ذلك كان من المهم محاولة اخراج المعتقلين، لكن أن يُسمح بدهان فرع أمنيّ ومحو أسماء المعتقلين عن الجدران؟ هناك تساهلمن السلطات في هذا الموضع، ولا اعتقد أنه سوء تقدير. الذي يدهن يستطيع فعل ذلك، الذي يسرق وثائق، يستطيع فعل ذلك، الذي يحرق،بوسعه ذلك.ذلك لأنه ليس لديهمتوجّهٌنحو آلية عدالة.

*ما رأيكم بتعامل السلطات المؤقتة مع القبض على المشتبه بهم، عناصر جيش النظام السابق مثلاً، ثم إطلاق سراح المئات منهم،في حمص مثلًا. ما مدى مهنية وجديّة هكذا تحقيقات؟

لا اعتقد أنها جديّة. لا أحد يستطيع التحقيق مع ٣٠٠ شخص خلال ثلاثة أيام. اعتقد أن ما جرى هو أنهم اعتقلوا جميع الذكور في المنطقة الممشطة وأخذوهم إلى الأفرع الأمنية ثم قاموا بفلترة سريعة بين مدني وعسكري وأطلقوا سراح المدنيين، تحت مسمى “لم تتلطخ أيديهم بالدماء”، وهذه العبارة ينبغي أن تكون صادرة من القاضي، لا من محقق. في الأحوال العادية، ينظر قاضي التحقيق في الملف وإن لم يكن هناك أدلة كافية يحفظ هذا الملف. لكن هذا القرار يذهب إلى محكمة الاستئناف. لذلك، ضروريٌّ للغاية أن تكون الملفات متاحة والمحاكمات علنية، لأنها تضمن وجود شفافية ورقابة شعبية، وأن يرى الأهالي الأقوال، وجديّة الأسئلة، وجدّة الأدلة، وجديّة الدفاع.

في النهاية، رئيس السلطة التنفيذية في كل دولة، هو الذي يملك صلاحية منح عفوٍ خاص. إن أصبح أحمد الشرع رئيسًا لسوريا، وقرر إصدار عفو خاص عمن وعدهم بالقانون، كان به. لا يمكن لأحد فعل شيء حيال ذلك. لكن الصيغة الحالية والقول أنه “حققنا معهم وتبين أنه: لم تتلطخ أيديهم بالدماء”، هي شبيهة بتلك التي كانت تقولها قوات سوريا الديمقراطية، عند إطلاقها سراح عناصر داعش تحت مسمى “لم تتلطخ أيديهم بالدماء”. لدي مئة سؤال حول ذلك، منها، لماذا تحبسهم لخمس سنوات إن كانوا كذلك؟، ولماذا ينتمي المفرج عنهم إلى عشائر كبيرة فقط قامت بوساطات؟ لذا فكرة “لم تتلطخ أيديهم بالدماء” تُبتذل في سوريا. ولم نعد نعرف إن كانت الأيدي لم تتلطخ بالدماء أم لا. وتبقى الأسئلة إن كان قد خرج لأن عشيرة توسّطت له، أو دفع رشوة، أو كان موعودًا بعفو لأنه كان يتجسس لهيئة تحرير الشام على النظام! لا اعتقد أن الإجراءات التي حصلت سليمة، لأنه لم تجرِ أية محاكمات. من هو ذاك الذي لم تتلطخ يديه بالدماء إن كان طلال مخلوف في بيته، أو إن عاد حيتان المال؟ وهؤلاء لم يكونوا فقط أشخاصًا فاسدين ويسرقون، بل وجد عناصر الهيئة مكابس الكبتاغون في منازلهم عند اقتحامها، كما تظهر الفيديوهات. أي أن هذا ليس رميًا للتهم. بعض هؤلاء معاقب دوليًا كسامر فوز والقاطرجي وحمشو على أعمال قاموا بها، ساهموا من خلالها بإفقار الشعب السوري والحصار الاقتصادي على الغوطة وتجويعها، وبيع الناس الأكل بعشرةأضعاف ثمنه. كل هذه الانتهاكات مرت اليوم لأن وساطاتٍ سياسية حصلت.

تعيد محمد حمشو أو تعيدغ يره إلى دمشق عبر مصالحة. هذا كلام لا يؤسس صراحةً لسلام مستدام. الذي يحدث في هكذا حالات صراحة، هو إما عودة هؤلاء ليصبحوا جزءًا من السلطة القادمة،ليحدثوا فساداًوانتهاكات أو يعيشوا معزولين، دون أن يقترب منهمأحد. إذا صادفهم أحد واستطاع الوصول إليهم د ينتقم منهم بشكل شخصي، ويضع رصاصة في رأسه. هذا الذي نحاول قوله: فكرة تأجيل فتح ملف العدالة في سوريا يعزز فرص استيفاء الحق ذاتيّاً، كما رأينا في واقعة مقتل مختار في دمّر. الفيديو سيء جدًا ومرعب. كثيرون تواصلوا معي وقالوا أنهم قادرون على تقديم إفادات ومعلومات، تفيد بحقيقة ضلوعه حقيقة في اعتقال أناس كثر، كثير منهم لم يعد، وأنه كان مخبرًا لأجهزة الأمن. حتى إن كان كل هذا الكلام صحيحًا، وكل هذه الوثائق صحيحة،لنحاكمه، لا نقوم بصنع مشهد إعدام كالذي نراه في الأفلام، يشارك الأطفال فيه. هذاللأسف لن يأخذ سوريا إلى مكان أفضل.

كثيراً ما أسمع كلامًا عن كوننا نعيش مرتاحين، والكلام الذي نقوله طوباوي ونظري، وأن الواقع على الأرض مختلف، والناس تكاد “تأكل” بعضها بعضاً. لكن العالم على وشك”أكل” بعضها، لأنها تشعر بأن حقوقها راحت. إن كان هناك كلامٌ جدي وتعهُّد إن هذا الملفّ لن يُنسى، ولن يُفرّط به، ودعوةٌ للتبليغ عن المتهمين، فـ (لن يحدث ذلك). إعدام هؤلاء الناس من دون التحقيق معهم، وأخذ أسماء الضحايا الذين مروا من خلالهم أيضًا، يفوّت علينا فرصة معرفة مصير أحبائنا.  إن كان أحدهم قد بلّغ عن الكثير من الناس، كشأن هذه الحالة في دمّر، فلتحقّقْ معه، وتأخذ منه الأسماء، وتوقّع معه اتفاقًا قانونيًا، فيه تخفيف للحكم مقابل الاعتراف وتقديم معلوماتٍ وأسماء. ينبغي أن يكون هناك رقابة على هذه المحاكمات كيلا نخرج بمعلوماتٍ تحت التعذيب.لأن من تعذّبه سيقول لك ما تريده. كلنا اعترفنا تحت التعذيب بالكثيرمما لم نفعله. لذا هناك تفويتٌ لفرصة معرفة مصير أحبائنا عبر إعدام هؤلاء الناس بهذه الطريقة، وما يعزّز الذهاب لاستيفاء الحق ذاتيّاً هو غياب أي كلامٍ أو تعهّدٍ رسمي عن موضوع العدالة اليوم في سوريا.

لذا لا ينبغي الانجرار إلى هذا الاتجاه. لا يمكن القول “الذي يده في النار ليس كمن ..”، كلنا اعتقلنا ومررنا بهذه التجارب السيئة المتعلقة بالمخبرين والضرب والتعذيب وسجن صيدنايا والاختفاء القسري، وعائلاتنا عانت، لكن ينبغي التعاطي مع هذا الملف بروحٍ تَشعر بالضحايا وبأهاليهم وتضع مصلحة البلد في معرفة مصير المفقودين وكشف مصيرهم ومحاولة إيصال معلومات لأهاليهم. الآن، يمكن لتحليل الحمض النووي أن يحلّ الموضوع. إنفُتحت المقابر، وأُخذت عيناتٌ من كل جثة، وأُخدتْ عينةٌ من كل عائلة عندها مفقود، عيّنة شعر أو لعاب أو دم، قد يقال أنّ الجثة رقم 700 تعود للعائلة رقم 15 ويسلمونها الجثة، لكن هذه العائلةلن تعرف ما الذي جرى. متىحُبس؟ من الذي حبسه في الفرع؟ هل عُذّب أملا؟ هل حُكمعليه بالإعدام؟ هل قتل في معركة؟ هل تمّت تصفيته من قبل الجيران، ورموهفي مقبرة جماعية؟ هذا لن يكشف الحقيقة عن هذه الانتهاكات، وبالتالي لن يؤسس لنوعٍ من السكينة النفسية للأهل.

على سبيل المثال، وثقنا حالةً لسيدةٍ من درعا، اعتُقل ابناها الشابان على حاجزٍ للأمن العسكري، وراحت إلى فرع الأمن العسكري في دمشق وإلى أكثر من مكان، تسأل عنهما. طبعًا طردوها واعتدوا عليها كلاميًا مثل كل أمهاتنا اللاتي مررنبهذه التجربة السيئة. لاحقًازارها عسكري من الفرع في درعا، قائلًا إنه يعرف ولديها المعتقلَين، وهما موجودان لديهم، لكنه أخفى ذلك أمام الآخرين في الفرع، وأنهما بحاجة للمال وأغطية، وهكذا ظلّ لسنتين يتردد عليها ليأخذ راتبًا شهريًا منها ليوصل لهما الأكل. لاحقًا، وفيما كانوا يحفرونفي الأرض عندهم، عثروا على جثتي ولديها، اللذين كانا قد قُتلا على خلفية خلافٍ على الأرض والأملاك، ودُفنا هناك، لكن من قتلهما ركض ليخبر الأهل باعتقالهما على حاجز، في بلدٍ كان يمارس فيه الإخفاء القسري يوميًا، ما فتح البلد أمام مثل هذه التصفيات من أجل أملاك، وعلى خلفية خلافاتٍ عائلية وثأرٍ شخصي. هناكالكثير منالقصص والروايات السيئة في هذا الإطار. لذلك، عدم كشف الحقيقة في حالات الإخفاء القسري لا يؤسس لبناء دولةٍيسودها سلمٌ أهلي. لم يخرج أحدٌمن مفقوديالثمانينات والتسعينات. عددهم حوالي17 ألف شخص بحسب تقديرات منظمة العفو الدولية. حتى اليوم، يقول أولاد رفعت الأسد: لم يكن هناك مفقودون، وأبناء مصطفى طلاس يقولون لك إن والدهم لميشارك. لم يكن هناك(مجزرة) حماة، ولم يكن هناك (سجن) تدمر، لأنه لم تنشأ لجانُ حقيقة، ولأنه لم يُفتح تحقيقٌ في هذا الموضوع، ولم تخرج جهة رسمية تقول حققنا في الموضوع وهذه إفادات ومعلومات. اليوم نحن في وضع أفضل، لدينا صور ساتلايت تُظهر المقابر، متى حُفرتْ، ومتى رُدمت. هناك فيديوهات، وصور، (كصور قيصر)، ومنشقّون، وشهود، وأناسٌأُفرج عنهم من صيدنايا، لا زالوا على قيد الحياة.كل هذه المعلومات هي أفضل بكثير من الذي حصلنا عليهاعنسجن تدمر في الثمانينيات، لذلكفرصتنا اليوم لمعرفة حقيقة ما حصل في سوريا أكبر بألف مرة مما حصل خلال فترة الثمانينيات، ينقصنا الإرادة السياسية لفعل ذلك، وهذه الإرادة السياسية عند شخص واحدٍ اليوم في سوريا، اسمه أحمد الشرع.

*من حيث التوقيت،يُفترض أن يتم العمل الآن على جمع الأدلة واعتقال المشتبه بهم، هل كان هناك فشلٌ ذريع في هذا الشأن، أم إننا نستطيع القول بأنه تم تحقيق تقدمٍ جزئي، في ظل وضعٍ غير مثالي، في الفترة التالية لسقوط النظام؟

لنكن عمليّين وواقعيين، لا منقبين عن الأخطاء والعثرات.النظام سقط. حالة الفوضى والفلتان التي كانت موجودة في آخر أسبوع قبل سقوط النظام كانت مخيفة. بعض المباني أُحرقت، وكان هناك محاولة إحراق قسم منها. كل هذا الكلام صحيح. لا يتوقع أحدأن تبدأ المحاكمات الأسبوع القادم في سوريا، أويطالبأن يكون لدىوزارة العدلمختبرٌ بعد عشرة أيام، وتبدأبإجراء التحليلات. هذا الأمر يتطلب سنوات من الجهود. لكن ما يمكن عمله اليوم هو تعهّدٌ واضح في هذا الإطار:أنه ليس هناك عفوٌ عام، ونتعهد بالبحث عن الحقيقة، ومن يساهم بإظهار الحقيقة نعطيه تخفيفًا (للعقوبة) أو عفوًا، وسنركز على الرتب العليا ومحاكمات الرتب الوسطى، بسنوات سجن أقلّوأحكام أخفّ أو إعفاءاتٍفي حال التعاون. أصحاب الرتب الدنيا، يعفى عنهم بصيغة أو بأخرى حسب دورهم. طبعًا ينبغي التفريق بين الجلاد الذي يعذّب والعسكري على الحاجز، الذي قد يُقتل إن انشق. لذلك، المطلوب الآن، مقابلة أهالي الضحايا. حتى اليوم، أحمد الشرع لم يقابل أيّاً من هذه المجموعات، سنا ووفا مصطفى عادتا إلى سوريا، وحالة والدهما شبيهة بحالة آلاف العائلات الموجودة في سوريا. نتحدث هنا عن مطالب واقعية، أن يكون هناك وفدٌ قادر على التعبير عن مطالبه. لا يطالب أحد بإعادة من قضى تحت التعذيب إلى الحياة، لكن لعائلاتهم الحق في معرفة كيف جرى ذلك، وما التزام الدولة اتجاههم أيضًا.

موضوع جبر الضرر لا يتم الإشارة إليه لأنه مخيف. عادةً ينظر إليه على إنه دفعةٌ مالية، بمعنى ابننا كان ضحية للذي حصل على يد الدولة وأجهزتها، ونريد راتبًا مدى الحياة.ليس كذلك بالضرورة، أحيانًا فقط عبر تأسيس آلياتٍ للحقيقة أو مساعدة الضحايا، كأن تقدّمرعايةً طبية مجانيّة للجرحى الذين بات لديهم إعاقات. أحيانًا، عبر مساعدة الناس بالعودة إلى منازلهم، أو تخليد ذكرى الضحايابيوم وطني.

هناك فيلم أمريكي معروف اسمه “آلكاترز”، عن الهروب من سجنٍ شديد الحراسة،موجودٌ على جزيرة قرب سان فرانسيسكو، شاهدته وأنا صغير في العمر. عندما رحت لاحقًا إلى سان فرانسيسكو، وجدت أنه سجن حقيقي موجود هناك، ويمكنك عبر تذكرة قيمتها 20 أو 25 دولار الدخول إليه ومشاهدته.يعطونك سماعة تخبرك وأنت تمشي، امشِ خطوات للأمام مثًلا، هذه الزنزانة التي كان فيها فلان، الذي رتب للأمر وهرب.

يمكن إنشاء النظام نفسه في سجن صيدنايا. من السهل جدًا أن تضع سردية ما حصل، لأنّ آلاف الأشخاص أُفرج عنهم منه، من السهل جدًا أن تركب فيه منظومة صوتية فيها ترجمة لعدة لغات، ما سيستقطب باحثين وأكاديميين، وطلاب قانونٍ من كل الدول، وقضاةً ومحامين سابقين ومدّعين من دول أخرى، وقد يدرّ ذلك ريعًا ماليًا حقيقيًا، يساعد أهالي المفقودين، وأهالي الضحايا. لكن فكرة، إننا سامحنا وأغلقنا الموضوع،تقلق الأهالي، ليس هناك من لديه وهم، إنه قد تحصل محاكمة في سوريا خلال العام (الحالي) أوتحليل لأية جثة، خلال سنتين. أقول هذا بحكمعملنا على مقابر داعش في الرقة وفي دير الزور.

علميًا وتقنيًا، يستغرق جمع هذه الأدلة أعواماً. أحيانًا تقوم بكل شيء على النحو الصحيح، وتأخد كل العينات من الجثث بشكلٍ صحيح، وتأخد عينات من الأهالي بشكل صحيح، لكن لا تحصل المطابقة، لأن بعض الأهالي لم يقدموا عينةً بعد، أو أن هناك مقبرة جماعية لا نعرف مكانها بعد. هؤلاء الأهالي ما زالوا يبحثون عن أبنائهم. لذلك تأخذ الأمور أعواماً، لا أحد لديه وهمٌبأنها ستستغرق أيامًا وسوف يخترع أحمد الشرع حلاًسحرياً لها بكلمة.إنما عبر التعهد السياسي بعدم التفريط بهذا الملف، والإقرار بأحقية الضحايا بالمشاركة في القرار، ومقابلة هؤلاء، مجموعات الضحايا ومجموعات الأهالي، والسماح للمنظمات التي لعبت هذا الدور بأن تقدم نصائح لوزارة العدل، وتقدم لها دعماً تقنيّاً.

 اليوم هناك آلية دولية أنشأتها الأمم المتحدة قبل سنة ونصف، اسمها: الآلية الدولية لشؤون المفقودين.ينبغيعلى وزارة الخارجية أن تعطيها موافقة لدخولسوريا، لأن الأمم المتحدة لا تدخل من دون موافقة، كما رأيناعند وقوع الزلزال، وخلال الحصار. العرقلة نفسها قائمة اليوم.ليسمحوا لهذه الآلية بالدخول إلى سوريا، وفتح مكاتب،وتسجيل الأهالي، وأخذ عينات لعابٍ ودمٍ وشعر منهم، وبدء العمل على هذا الموضوع.وهذا لن يكلف الدولة السورية دولارًا واحدًا، ما عدا التسهيلات اللوجستية.

لذلك لا أعتقد أنّ الحديث:(كان ينبغيحلّهذا الموضوع منذ اليوم الأول) سليم، وكذلك بأنّنا نحتاج إلى عشر سنوات لنغلق الموضوع. بوسعك تقديم تعهّدٍ سياسي والتزامٌ أمام الناس وأمام الشعب وأمام الله على هذا الكلام، وتقابل الأهالي وتبدأ بالخطوات العملية.اللجنة الدولية للصليب الأحمر موجودة في سوريا، ولديها إمكانيات علمية وتقنية وكوادر. بعض موظفيها كانوا تحت سيطرة النظام، لتغيرهم بطلب كوادرهم الموجودة في مصر،واليمن أو العراق أو تركيا، أو أجلب أناسًا جدد.

لكن إغلاق الباب على هذا الموضوع وتمييعه بهذه الطريقة، وإعطاء معلوماتٍ متناقضة، كالقول بأن بوسعكالادعاء بحقك الشخصي، أو القول لكل مَن يريد حقهالشخصي:”جبتلك سوريا”.الآن هل أدعي أم لا؟ أيضًا فكرة الادعاء بالحق الشخصي مكلفة، خاصة مع إمكانية أن ترُفض الدعوى بذريعة وجود اتفاقٍ على عفو. ومرسوم العفو لا يمرّفي سوريا دون وجود مجلس شعبٍ منتخَبٍ يصادق عليه. لا أعتقد أن ممثلي الشعب سيسمحون بهذه الطريقة.

لذلك، سيناريو لبنان مخيفٌ..مخيفٌ.. مخيفٌ تكرار ما حصل في لبنان.هناك أناس شاركوافي التهجير القسري في لبنان، وأصبحوا وزراء مهجرينلاحقًا، وهذا قد يتكرر في سوريا. رغم كاريكاتيرية المشهد، هناكأناسٌ شاركوا في إعدامات، وباتوا بعدهافي وزارة المهجرين والمفقودين. لا نريدلهذا الشيء أن يتكرر في سوريا. سوريا لن تخرجمن دون أخطاء بعدالذي صار، يعني “الأسد أو نحرق البلد”، حرقوا البلد وسلمونا بلداً مدمراً على الأرضماليًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيا وسياسيًا وأمنيًا، بلدٌ مخترق من 500 جهاز مخابرات. لكن على الأقللنرتكب أخطاءنا، لا أننكرر أخطاء جيراننا، والأخطاء السابقة.

*وزير العدل في الحكومة المؤقتة، الويسي، متّهمٌ بتنفيذ اعدامات خارج إطار القانون. كمؤسس منظمة قانونية، ما مدى صعوبة تعاملكم مع جهاز قضائيٍ يترأسه هكذا شخص، رغم اضطراركم لذلك؟

هو متهمٌ بارتكاب جرائم حرب. هذا أمرٌ إشكاليٌّ طبعاً، هذا يضعنا أمام عقبة على الأقل أخلاقية، إن لم نقل قانونية، هل نذهب إلى هذا الشخص ونقول له لنتحدث عن العدالة. عندما تحدث شادي الويسي أمس على الجزيرة مباشر، سأله الإعلامي المحاور إن كانت المحاكمات ستشمل الانتهاكات من عناصر الهيئة، فقال نعم ستشمل جميع الأطراف. طيب. هل (حقاً) ستشمل جميع الأطراف أم لا؟ لذلك اليوم، نسمع كلاماً إعلامياً، يعني ما يريد الجمهور أن يسمعه، لكن التطبيق في مكان آخر. هناك نشاطٌ لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية قريبًا في دمشق، للمطالبة بإطلاق آليات عدالة. وكان هذا سؤالاً محقًا، إن جاء شادي الويسي وحضر معنا، ما الذي سنفعله؟ هل نصافحه ونجلس قربه ونلتقط صوراً معه، حتى إن كان ذلك ليس جريمة قانونية؟. لكن على الأقل أخلاقيًا، أين يضعنا هذا الموضوع؟ هو طبعًا عبءٌ شديد، وخطأ كبير. لم تكن الفيديوهات مشهورة أو معروفًا أنه هو قبل أن يُعيّن. الحق يقال. لكن بعد أن عُرف، من المفترض تغييره.بمعنى، هذا الشخص سيكون عثرةً في وجه الجسم القضائي الجديد، وسيكون عثرةً في وجه المحاكمات والعدالة الانتقالية، وعلى الأغلب أنّ إبقاءه سيرجح فكرة العفو أكثر.

أي كلما أردنا الحديث عن المحاكمات، قد يُجرّ الويسي إلى المحكمة شأنه شأن الآخرين، لنمرر العفو، ونسوقه ضمن فكرة السلم الأهلي. وفكرة السلم الأهلي “تبيع”،ترضيبها الدول الخارجية التي تتحدث عن حماية الأقليات،أي اصدار عفوٍ عام لحماية الأقليات، لأنهم سيحاكمون،بالنظر إلى أن أغلبية عناصر أجهزة المخابرات والجيش من العلويين أو على الأقل هذا هو الانطباع العام لدى الجمهور.وأن هناك ضباط وعدناهم، لنمررالعفو العام.  لكن الحقيقة هي حماية شخصياتٍ في هيئة تحرير الشام، شاركتْفي انتهاكات وفرّطتْ بحقوق الناس كماسبق وأن تحدثنا. ملفّ المفقودين ثقيل للغاية وصعب، ولا يمكن القفز عليه بهذه الطريقة.

في العام 2008 كنت في بيروت،اختبأتُ في لبنان لسنتين بعد خروجي من سوريا. كنت أعمل في هيومان رايتسووتش بشكلٍ سريّ، كباحثٍ في شؤونسوريا. كتبتالصحفية منال الشاعية مقالًافي صحيفة النهار تقول فيه أن هناك مقبرة جماعية على الأوتوستراد باتجاه جونيه،بناء على أقوال شاهد عيان. قاومت الحكومة يومين، قبل اتخاذ قرار فتح المقبرة من عدمه. قام الأهالي بمظاهرات. اضطر جهاز الأمن الداخليإلى جلب الحفارات وفتحوها بشكلٍ اعتباطي وعشوائي من دون التأكد أو إجراء تحقيقات. حفروا في منتصف الأوتوستراد، لميعثروا على شي، هذا ما أسعدهم، ووجه واللصحفية اتهام نشر أنباء كاذبة. لكن هذا المادة كُتبت بعد ١٧ عامًا من انتهاء الحرب الأهلية في العام ١٩٩١، وعن مفقودين قبل عشر سنوات من ذلك، أي أن هذا الموضوع لن يموت. سيظهر نشطاء وصحفيون وأهالي ليفتحوه، للأسفس يؤسّس فقط لاستيفاء الحق ذاتيّاً، لا أكثر.

المحور الثاني

أيّة عدالة انتقالية يحتاجها السوريون/ات

*استمعتُ إلى عدد من الحقوقيين/ات وهم يتحدثون عن تصورهم حول العدالة الانتقالية في سوريا، تبدو بعض الاقتراحات نظرية، ما هي مقاربتكم لعناصر أية عدالةٍ انتقالية حقيقية في سوريا، عناصر لا يمكن الاستغناء عنها لأجل سلمٍ أهلي مستدام؟

ينبغي أن نصنع مشروعنا الوطني الخاص، بمعنى عدالتنا الخاصة.ليس من الضروري أن ننسخ من دول أخرى ونكرر. بعض الآليات مترابطة فيما بينها. ينبغي أن تكون الجهةالتي تحاكم على شراكةٍ مع آلية البحث عن المفقودين. من المفترض أن يتم استجواب جميع الذين كانوا في السجون، كالضباط الذين كانوا في صيدنايا وأفرع الأمن، عن موضوع المفقودين، وتؤخذ هذه الإجابات، وترسَل إلى هيئة المفقودين. إن صنعت آليات منفصلة عن بعضها، تخاطر بأن تحتفظ كل آليةٍ بمعلوماتها لنفسها، ولا تشاركها مع الآخرين. ينبغي أن تحصل المحاكمات الجزائية في سوريا لبعض الأطراف، وتؤسّس لجنةٌ وطنية للمفقودين، تشرف على البحث عنهم، ويتاح لها إمكانية الاطلاع على ملفات المحاكمات ومراجعتها لاستخراج المعلومات المهمة في هذا الإطار، وأيضًا إمكانية العمل على موضوع المقابر الجماعية والتواصل مع المختبر العلمي.هناك ترابطٌوثيق بين الموضوعين،إن كان لدى الهيئة، ولنقل، أفضل المعدات التقنية، وأصدرت شهادة تطابق، تشير إلى أن الجثة رقم كذا تتطابق مع العائلة رقم كذا، مَن ينبغي عليهالموافقة على هذا الكلام وإصدار شهادة وفاة؟ المدعي العام. لذا عليكالعودة إلى الجهاز القضائي، وبالتاليحتى لو لعبت الأممُ المتحدة هذا الدور، أي البحث عن المفقودين، ينبغي عليها تسليم الإجابات والتحقيقات والتطابق إلى المدعي العام في سوريا. لذا نقول أنه ينبغي أن يكون البرنامج وطنيًا وبقيادة السلطة أو الدولة في سوريا.

هذه نقطة مهمة للغاية، هناك منظمات تقدم مطالب كثيرة في هذا الإطار، وهناك طبعًا شتائم توجه إليها، على أنها تريد الحصول على عمل لها،لكن هذا العمل لا يتم من دون الدولة ومؤسساتها، هذا عمل وطني، وبرنامج وطني، قائم على شراكة بين مؤسسات الدولة، كوزارة العدل، ووزارة المفقودين والمهجرين إلى آخره، والمنظمات، التي تقدّم بعض الخبرات وبعض الأفكار والتجارب، وقسماً كبيراً من الأدلة، التي بوسعها تسليمها لوزارة العدل.لذا نتحدث عن ضرورة تأسيس محاكمات جزائية في سوريا،وكذلك إنشاء آليةللمفقودين. إن لم تحصل محاكماتٌ جزائية، نستطيع تأسيس لجانٍ للحقيقة، تكشف المصير وتساعد هيئة المفقودين، دون إجراء محاكمات للجميع، إذ أنه وحتى عبر الآلية، ليس بوسعك محاكمة مئة ألف أو مئتي ألف شخص، إذ سيتحولون إلى عبء مالي، لحاجتهم إلى إطعام وحراسة، لذا تحاكم المسؤولين، لنقل من رتبة لواء إلى عميد، أما الأدنى درجة قليلًا، فيدفعون تعويضات مادية للضحايا أو يشاركون في كشف معلومات، ويُعفى عن الرتب الدنيا. هذا النقاش من المفترض أن يجري بين الخبراء والأهالي والدولة.

هناك موضوع صرف الموظفين عن الخدمة في دوائر الدولة، يرى الجمهور أن الأمر متعلق بموظفين عبر الوساطة أو لا يعملون. مثلًا مسألة الكادر الصحي في درعا، التي تابعتُ بعض المقابلات عنها، بينهم أطباء وممرضات وممرضين، يقولون “نحن حملناكم خلال كوفيد، والآن رُمينا في الشارع”، والموضوع مثار أخذٍ ورد، ويشار إلى أن الأمر متعلق بـ ١٥ دولارًا. حتى لو كان الأمر متعلقًا بدولار واحد، لا يمكن أن ترسل موظفًا إلى الشارع.

ولذلك فإنّ إصلاح المؤسسات، ولا أعنى المؤسسات الأمنية، والقضاء، بل إصلاح المؤسسات كإطارٍ عام، ضروريٌ جدًا في سوريا، لأنه لا أحد يثقفي مؤسسات الدولة.نظرتنا إليها هي أنها مؤسسات سيئة وفاسدة، إن لم تقتلنا ستسرقنا. هناك آلية تستخدم عادة لإصلاحها، تعرف بالغربلة والتطهير. لا تستطيع إزالة الجسم البيروقراطي لأي وزارة، وترميه في الشارع، لأنكلن تعرف كيف تعمل في اليوم التالي، سيتوجب عليك معرفة ما كتبوا وصنّفوا من أوراق وكذلك المراجع والديوان، وكل هذه التفاصيل اليومية المتعلقة المراجعين.لذا فأنت تزيل الوزير والمدراء العامين، وتعين أناساً جدد محلهم،وتتركا لكادر البيروقراطي ليساعدك. بعد عامين، تكون قد أدخلت كادرًا جديدًا مدربًا،لديه مؤهلات علمية،وتعزل جزءاً من هؤلاء (الكادر القديم)، عبر تقاعد مبكر، وآليات تدفعهم إلى القطاع الخاص، حيث يجدون مصالحهم الشخصية فيها ويتركون الوظيفة، لكن ليس بوسعك إغلاق هذا الموضوع. كما تلاحظ اليوم في سوريا، هناك قسم كبير من الوزارات، التي ليس فيها كوادر بيروقراطية.

تواجه الإدارة الجديدة في بعض الأماكن صدمةً من ناحية الواقع العملي، مثلًا في مطار دمشق، لا أحد يستطيع تسيير المطار سوى موظفي المطار، فأبقوا على الكادر فيه. الآن، وبعد ستة أشهر، سيتعلمون ويفصلون هؤلاء الموظفين ويجعلونهم يشرفون على الفريق الجديد أو يدربون طواقم مطار حلب ومطار اللاذقية مثلًا. وتتمّ إجراءات الغربلة والتطهير وفق توثيق، لا أن يقال مثلًا، سنفصل موظفين لأنهم وهميون، ما الذي أدراك؟ لترنا الوثائق التي بحوزتك. هناك أوراق متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، تظهر تعييناتٍ استثنائية لكون المعنيين من ذوي الشهداء.من الواضح أن هؤلاء مُنحوا مكافآتٍ من نظام بشار الأسد. من الأسهل النظر في أوضاع هؤلاء مقارنة بأناسٍ موظفين منذ ٢٠ عامًا، ومن المحتم أنهم لم يُوظفوا مكافأةً على ما جرى خلال الانتهاكات، إذ كانوا موظفين قبل الثورة. هناك أيضًا حديثٌ عمن يداوم أو لا يداوم، ويحضرني هنا تعليق أحدهم عن استحالة قبض أحدهم من الناحية الإجرائية والتقنية ثلاثة أو أربعة رواتب، قد يحصل على مهمات، ضمن الفساد السائد في سوريا بين المؤيدين والمعارضين لبشار الأسد، لذلك فالغربلة والتطهير وإصلاح المؤسسات مهمٌّ جدًا، لا يقل أهميةً عن المفقودين ولا عن المحاكمات، إما نؤسس لمؤسسات دولةٍ تخدمنا أو ندع مؤسسات الدولة تنتزع منا أموالنا وتمتهن كرامتنا وتتطاول علينا كلما أردنا جلب ورقة من السجل المدني أو السجل العدلي أولا حكم عليه أو غيرها..

النقطة الرابعة، التي منالضروري الحديث عنها، هي استعادة الممتلكات العقارية. فقد حصل تهجيرٌ قسريّفي سوريا، وحصل استيلاءٌ على أملاك الناس عبر القانون رقم عشرة، واستملاكها طبعاً ووضع اليد عليها، بحجة أنها عشوائيات، بعد ٥٠ عامًا من كونها عشوائيات، وجرفها لمنحها إلى جهةٍ ما. شاهدنا بعض الحالات التي يأتي أناس أو هيئة التحرير الشام وتقول لأناسٍ مقيمين في عقار بأن عليهم الخروج منه. وتحدث أحيانًا حالات حسنة النية، كأن يقول أحدهم بأنه اشترى البيت ولديه وثائق ملكية، ليكتشف لاحقًا بأن البائع لم يكن مالكه، والأوراق مزوّرة، وكان القاضي فاسدًا فوقع عليها في السجل العقاري. لذا من دون وضع برنامج لاسترداد الممتلكات وإصلاح موضوع الملكيات العقارية، ستستوفي الناسحقها بنفسها، من معه سلاحٌ اليوميُخرج الأضعف، وقد تنقلب الآية غدًا.

عندماقمنا ببحث عن موضوع الملكيات العقارية، أوضحنا أنه في أمريكا مثلًا لا تملك الدولة شيئاً، بينما في سوريا، الملكية الفردية ضيقة جدًا.النظام لعب على هذا الموضوع، وأعطى أراضي للوزارة لتعمل فيها، وأعطى أراضي الإصلاح الزراعي، لكنهلميفرغ القرارات.هناك مايعرف بالعقارات الأميرية، وحق التصرف،الذي يسمونه”ملك الرقبة”، الملكية للدولة، لكنكَ تملك حق التصرف فيها.وهذا يعني أنه بعد عيش المرء وأولاده وأحفاده فيه 50 سنة، قد يأتي أحد ليرميه خارجًا لأنها لم تكن له، رغم أنه كمزارع، تصرف بحسن نية، ولم يرتكب خطأً.

فلذلك، هناك حاجة لبرنامجٍ جديّ وحقيقي لتقنين الأمر، هذا الموضوع ليس مرتبطًا بقرار سياسي، بل يتعامل مع أسئلة مثل: هل قانون الإيجار والملكية ظالم أم لا؟ موضوع الملكيات العقارية مهم، لأنه ترافق مع التهجير القسري للسكان المحليين، إن كانوا أهل دوما الذين هُجروا إلى الشمال، أو أهل القصير وحمص الذين حاصروه.

ما لا يقل أهمية عن هذا الموضوع: جبر الضرر.أحب تسميته جبر الخاطر، لأن خاطرالناس مكسور في سوريا، (الذي لن يحصل) إنلم يظهر برنامجٌ ينتبه لهذا الموضوع، ويفتح الباب للناس لتنفّس وتحكي وتسمع التطمينات التي تحتاج إلى سماعها، وتسمع ضماناتٍ على نحو أنك لن تخسر بيتك وعملك، وستستعيد حقك، وستعرف مصير ابنك، حتى إن كان قد استشهد ولا نستطيع استعادته، لكن على الأقل أن نعرف ماذا جرى. من دون هذه البرامج التي فيها الكثير من التقاطع، لا يمكن أن تجبر خاطر أحدٍ خسر بيته في القصف، ومن دون معرفة الملكيات العقارية المتاحة له، كمساكن الشرطة والمخابرات، التي يمكنك أن تعطي متضررًا منها بيتًا.

الفكرة الأساسية في العدالة الانتقالية هي أن تصمم ما يلائم بلدك، وما يوافق متطلبات مرحلتك، والذي تستطيع الانفاق عليه. نحن أيضًا حبيسو التفكير فيما إذا كان هذا مطلوبًا منا من الغرب أو وصاية علينا. لكن (ينبغي فعلها) ليس لأنها مطالبهم أو لأننا عشاق سفارات.

في لبنان، يعيش الدروز والمسيحيون في الجبل كلٌّ على حده، هجّروا بعضهم بعضًا وتبادلوا العقارات، واستقروا على هذا الموضوع. الأمر ينطبق أيضًا على البوسنة وصربيا، حيث حدث تبادل.فعندما أراد الاتحاد الأوروبي إعادة الأعمار اشترط عليهم إعادة الممتلكات إلى بعضهم بعضًا، وإلا فلن يدفع، وقام الطرفان بالتعهد بذلك، وحدث تبادلٌ طوعي بين السكان، ثم حدث التقسيم في يوغسلافيا السابقة. هذا ما يمكن أن نواجهه أيضاً كشرط. ليسمّه من يشاء وصايةً أم لا.

لذا، ومن دون وضع برنامجٍ وطنيٍّ نابع من مصلحتنا نحن، قد يكرس ذلك حالاتٍ من الظلم طويل الأمد، يُدفع أصحابها لاستيفاء الحق ذاتيّاً، فيفتح باب أي بيت فارغ ويعيش فيه. الكثير من العائلات قُتلت عن بكرة أبيها للأسف. النظام السفاح رمى البراميل المتفجرة على الناس بطريقة دموية. هناك أناس اختفوا ومازالت أملاكها موجودة. فكرة وضع اليد لا تؤسس لديمومة. هذه مجموعة من الأفكار. هل الحكومة قادرةٌ على تنفيذها كلها؟ كلا. هل بوسع منظمةٍ تنفيذها كلها؟ كلا. هل لدى أحدٍ حلٌّ سحري؟ كلا. هناك حاجةلحدوث توافق وشراكة بين كل هذه الأطراف. فتأتي مثلًا بخبير من البوسنة ليخبرك كيف اتخذوا هكذا قرارات، وآخر من اللجنة الدولية للمفقودين للمساعدة في موضوع المفقودين، وآخر متخصص في موضوع تخليد الذكرى، لتحويل بعض الأماكن إلى متاحف، تُزار بتذاكر يذهب رعيها إلى أقارب الضحايا. من فقد ابنًا مصيبته كبيرة، لكنّ من فقدَ أبًا يعني أنّ الأسرة فقدتْ معيلها وتعيش على المساعدات. هناك إذاً بعض الأفكار الجيدة، التي يمكن تنفيذها بأيادي سورية، مردودها جيّدٌ على الناس، ماليًا ونفسيًا واجتماعياً. هناك حاجةٌ لقرار سياسي فقط.

*المسارعة في تطبيق العدالة تحمل أهميةً بالغة للحفاظ على السلم الأهلي كما نعلم، كيف يمكن تحقيق ذلك، عبر المحاكم المحلية (مع محاكم مصالحة أهلية) ، أم اعتراف السلطة القادمة بالمحكمة الجنائية الدولية، و/أو إنشاء محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا؟

المحاكمات الدولية لا تحاكم أكثر من بضعة أشخاص، من أكثرهم تحملًا للمسؤولية. في سوريا، بشار وماهر الأسد، وعلي مملوك وجميل حسن، عبدالسلام محمود، وقيادات الجيش، أي ما بين عشرة وخمسة عشر شخصًا. محكمة الجنايات الدولية تحاكم أربعة أو خمسة أشخاص مثلًا. شاهدنا خمس مذكرات توقيف، مع كل فداحة ما حصل في غزة. لذلك ينبغي أن يكون هناك دورٌ للقضاء الوطني. بوسعك أن تثقل كاهل القضاء الوطني بمئتي ألف دعوى، و٣٠٠ ألف موقوفاً ومتهماً.. لا يمكنك إجراء محاكمات بهذا النطاق. هنا يأتي القرار الوطني. مثلًا، بالنسبة لرتبة مجندٍ وعسكري يخدم على الحواجز، المجندون إجباريًا، يعفى عنهم، ويُرسلون إلى بيوتهم، لأنهم كانوا مجبرين على الخدمة تحت تهديد الحبس. وتقوم بالتمييز بين المنضوين تحت جهاز المخابرات والشرطة والجيش، وتحقق في بعضٍ من هذه الحالات. حاكمت المحكمة الدولية الخاصة في رواندا سبعةً وأربعين شخصًا. لكن أُسس ما يسمى جاكاكا، وهي آلياتُ محلية قبلية يسري فيها الأمر على نحو “أنت قتلت ابني، ستعتذر وتدفع الدية، أنت قتلت بقرتي، ستعتذر وتعيد لي بقرتين. حرقت منزلي، ستصلحه”. وكان هناك بعض الإجراءات المحلية بين القبائل المتصارعة.

من الممكن تطبيق ذلك في سوريا، بشرط ربطه بالجسم القضائي السوري. بمعنى ألا تعفو عشيرةٌ عن شخص ثم يأتي إلى دمشق مثلًا ويجد مذكرة توقيفٍ صادرة بحقه. أو أن تؤسس عدة مجموعات قضائية متنافسة ومتعارضة فيما بينها. لذلك إن تم تنظيمها والمصالحة عليها واسقاط الحق الشخصي، ودفع ديّةٍ شخصية، يأخذ الشخص المعني لا حكم عليه أو ورقة مصالحةٍ سارية على كل الأراضي السورية.

خطورة ما كان يحصل قبل سقوط النظام، أنه عندما يكون لدى كلٍّ من “قسد” وهيئة تحرير الشام، والجيش الوطني، ونظام الأسد، أجسام قضائية مستقلة، فقد يجد شخصٌ محكوم بالبراءة في القامشلي مثلًا نفسه مطلوبًا في دمشق. إن أسسنا لهذا الأمر، سيكون كارثةً على الجسم القضائي. لذلك، ينبغي أن تكون هذه الآلياتمرتبطةً بمصادقةٍ من وزارة العدل، والتأكد من أن الشخص المتضرر قد أسقط حقه الشخصي طوعًا، لا عبر التهديد والترهيب، كأن تهدد عشيرةٌ شخصًا ليسقط حقه، أو أن تكون عائلة الجاني مسلحةً أو ثرية.

من جانبٍ آخر، المحاكمات الدولية مكلفة للغاية. محكمة رواندا كلفت مليارين ومئتي مليون دولاراً لمحاكمة ٤٧ شخصًا. محاكمة يوغسلافيا كلفت ملياري دولار. إن قلت سنحاكم عشرين شخصًا مقابل ملياري دولار، في بلد مدمر بالكامل… إن سألت الناس هل تريدون إعادة الإعمار في دوما وحرستا والقصير مثلًا، بهذا المبلغ أم نحاكم به خمسة أشخاصٍ ونضعهم في سجن “خمس نجوم”، لأنه ليس هناك عقوبة إعدام في المحاكمات الدولية؟ستجد أناسًا يقولون لك ليذهب هؤلاء إلى الجحيم، أريد أن أعيش حياتي اليوم لنبني بها مدارس ومستشفيات، لذلك ينبغي أن يكون ذلك جزءًا أصيلًا من الحوار الوطني، الذي ينبغي ألا يقتصر على العملية السياسية، فهو بحد ذاته ضروريٌّ ومهم. لكن ينبغي أن يكون هناك نقاش وطني عن الأولويات، كالعدالة والمصالحة.

حتى هذان الملياران اللذان نتحدث عنهما، ليسا موجودين في سوريا اليوم، من سيموّل ذلك؟من هنا، فالسماح للمنظمات الدولية كالأمم المتحدة واللجنة الدولية للمفقودين بالدخول إلى سوريا يخفف العبء، هؤلاء يأتون ويجلبون أموالهم معهم، ولا يأخذون من أموال السوريين، وأنت تراقب وتتأكد من أن عملهم يتوافق مع مصالح الشعب السوري والقوانين. وعمل هذه المنظمات مشهودٌ له. تعرّفت اللجنة الدولية للمفقودين على نحو سبعة آلاف من أصل ثمانية آلاف جثة في سربرنيتسا. أجرت تحليل الحمض النووي وسلمت الرفات للأهالي، الذين سجلوا وفاةً رسمية ودفنوا الرفاة على الطريقة الإسلامية وأقاموا عزاء، ولذلك مفاعيل قانونية. هناك نقطة خطيرة هنا، جميع هذه النقاط خطيرة ومترابطة، قد يأتي أحد الورثة ويطالب بتسجيل مفقودٍ كمتوفّى، لأجل أن يأخذ الإرث، أو أن تطالب الزوجة بذلك لتُسجل كعازبة. لذلك ينبغي أن يكون هناك اشرافٌ قضائيّ وطنيّ عليها، مع السماح بدخول المنظمات. لا نفهم حتى الآن لماذا لم تُعط الآلية الدولية للمفقودين الأذن بدخول سوريا، لتعاين على الأرض على الأقل وتلتقي الأهالي. من دون مبالغة، ينبغي أن يكون نصف الحوار الوطني مركّزًا على آليات العدالة الانتقالية. أحيانًا يقال عن هذه الآليات، “هل تريدون المحاكمة أم العفو؟”. حقيقة، تساعد هذه الإجراءات البلد في المرحلة الانتقالية وتعافيه ككل على الصعيد الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وفي البحث عن المفقودين.

من النقاط الإيجابية التي مُرّرت في لبنان بعد الحرب الأهلية، قانونٌ ينص على أن يكون ٣٪ من الموظفين من ذوي الاحتياجات الخاصة. لذا وجد جرحى الحرب وظائف، وبتَّ تلتقيهم في البنوك أو وسائل الإعلام. من الضروري وضع قانونٍ وطني في سوريا يساعد مصابي الحرب فيها. الأطفال يعانون أكثر، لأنهم بحاجة لتبديل الأطراف الصناعية كل فترة، على عكس البالغين الذين طولهم ثابت. إن لم تكن هذه التشريعات شاملة لكل السوريين/ات، سيدفع كل شخص من حسابه الخاص، حسب ظروفه وقدرته على السفر، ولن نؤسس لبلدٍ بهذه الطريقة.

*كيف تنظر إلى الدعوات لمحاكمة إعلاميين موالين للنظام السابق، كانوا يحرضون خلال الحرب أو يتشفون بأهالي الضحايا؟ هناك تصنيفاتٌ استخدمت في دول أخرى مثل متواطئ/ داعم، هل هذه المطالب واقعية؟

في رواندا حوكم أحد أشهر الإعلاميين في قضيةٍ شهيرة متعلقة بالإذاعة، كان ممن يحرضون على القتل، ويعطي إحداثياتٍ لأناس، داعيًا للحاق بهم وقتلهم. هناك من سُجنوا بعد أن حكمتْ عليهم محكمة الجنايات الدولية الخاصة برواندا. لكن لا بد من التمييز بين درجاتٍ متفاوتة. هناك من يتشفى. بلّغنا عن شخصٍ في ألمانيا في العام ٢٠١٦، وقُبض عليه. كانت هناك صور تُظهره يدوس على جثة. لم يستطيعوا اثبات أنه قتل أحدًا، فقضت المحكمة عليه بالسجن تسعة أشهر بتهمة إهانة الكرامة الإنسانية. لذلك ينبغي التمييز بين من يتشفى كتابةً، ومن يحرّض، كحسين مرتضى. وأيضًا هنا عبء الدليل، الذي يثبت أن لكلامه دورًا في وقوع الجرائم، وهذا صعب. في حالة رواندا، كان هناك دليلٌ بأن كلام الإعلامي أثّر، وسمع الناس كلامه على الراديو، وكان يوجّه الجماعات القبلية لتهجم. لذلك ينبغي أن يكون هناك إطارٌ قانوني.

الآن، القول إنه ينبغي محاكمة كل من حكى كلمةً أيّد فيها الجيش أو بشار الأسد، ليس واقعيًا. من كان لكلامه دورٌ في الانتهاكات ينبغي محاكمته. قد يكون التعويض على شكل اعتذار من الضحايا، أو الطرد من العمل ومنعهم من ممارسة العمل الإعلامي، وأن يكون العقاب واقعيًا وعمليًا، قائمًا على فلترة. لا يمكنك ترك طلال مخلوف، الذي نفّذ، في بيته، ثم تلاحق شخصًا كتب أنه مع الجيش وينبغي القضاء على الإرهاب.

بعض الإعلاميين/ات كانوا مرافقين للعمليات القتالية، كميشلين عازار التي أجرت مقابلةً مع طفلة في داريا فيما كانت والدتها (تموت) قربها، تسألها إن كان الإرهابيون هاجموهم. هل حرّضت؟ لم تفعل. هل انتهكت المعايير المهنية؟ نعم فعلت. ينبغي ألا يستقبلها أحد في التلفزيون.

ليس لدينا في سوريا جرأة الاعتذار وهذه “مصيبة”، لن تجد أحدًا يظهر ليقول “كان معكم حق، وكنا ندري بما يجري”. الجميع يدعي بأنه لم يكن يعرف وأنه كان خائفًا. قد يصدق المرء حقيقة أنّ الخوف ظل سائدًا في دمشق مثلًا، مَن كان يعتقل، لا يخرج. وإن خرج فبعد عشر سنوات، ومعطوبًا. لكن كيف لم يعرفوا بما يجري؟

المحور الثالث

مصير محاكمات الجناة السوريين في الغرب

*سبق وأن شاهدنا محاكماتٍ في دول غربية، ألمانيا تحديداً وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية، هل ستتوقف مثل هذه المحاكمات فور البدء عمليًا بمحاكماتٍ ضمن عملية عدالةٍ انتقالية في سوريا؟ وهل نحن أمام المخاطرة بإعادة قضايا ضد متهمين سوريين من دول غربية إلى سوريا ليتهرب المتهمون فيها من عقوبات كبيرة؟ مثلاً: محامي إسلام علوش، المعتقل في فرنسا عن جرائم يتهم بارتكابها عندما كان فاعلاً في جيش الإسلام، تواجد في دمشق قبل أيام وكان يطالب بإعادة القضية إلى سوريا..

في برلين، كان هناك لقاءٌ يوم أمس لاتحاد النيابات العامة الأوروبية، شاركت فيه مجموعةٌ من المنظمات، بينهما زميلي وزميلتي. لن تتوقف المحاكمات التي تجري في أوروبا لمقاتلين سابقين وشبيحة ودفاعٍ وطني وعناصر ميليشيات، لأن القرار فيها يعود لهذه النيابات العامة، الملزمة بحسب قوانينها المحلية بمحاكمة شخص، شارك في انتهاك، حتى لو كان ذلك خارج أراضيها.لذا فالقضاء الألماني ملزمٌ بمحاكمة شخصٍ ارتكب جريمة، سواء أطلبتْ دولته ذلك أم لم تطلب، سواء أادّعى شخصٌ ضده أم لا.لدى النيابة العامة صلاحية الادعاء بالحق العام ومحاكمة هذا الشخص إذا وطىء أراضيها. لذلك فهذه الدعوات قد تكون نظرية فقط، بمعنى أوقفوا هذه المحاكمات. وأحيانًا تأتي من خلفيتين، أنّ سجونكم خمسة نجوم، وليس لديكم عقوبة إعدام، أعيدوه إلينا. وأحيانًا العكس، إن كان لدى الشخص “واسطة” في سوريا، يأمل المتهم أن يدفع المال أو يجري مصالحة ويخرج من الحبس بعد سنة، لكنها ليست واقعية ولن تحصل.

لا أرى أيّاً من الأجسام القضائية مستعداً لتسليم أي شخص لسوريا. التسليم يتم عبر آلياتٍ تسمى مذكرات التعاون القضائي بين البلدين. وله شروطه، لن ترسل هذه الدول أحدًا إلى دولة لن يحاكم فيها المرء محاكمة عادلة. لذلك على الدولة السورية الجديدة اليوم، وزارة العدل، أن تثبت أنّ القضاء مهنيّ والمحاكمات عادلة، ويستوفي الشخص حقه في الدفاع عن نفسه، ويستطيع الاستئناف، وأنه في مأمن، بمعنى أنه لن يتعرض لأعمال انتقامية بعد حبسه وخروجه. لذلك السؤال الأخطر يتمثل في أنه، بعد انتهاء هذه الأحكام، كدعوى “سائق تركس مجزرة التضامن”، التي قمنا بها نحن، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات في ألمانيا. إن أنهى عقوبته وعاد إلى سوريا وصادفه أحد، سيقتله، لأن هناك الكثير من الدماء على يديه، والناس غاضبون منه، وجريمة التضامن كانت نكراء، وكانت هناك أدلّة مصوّرة عليها. لذلك قد تجد هذه الدول نفسها أمام سؤالٍ مهم :هل نمنح هؤلاء الإقامة بعد انتهاء أحكامهم رغم أنهم مسجونون عن جنايات وجرائم حرب؟ لكن حتى ذلك الوقت، ستكون الأمور قد ترتبت في سوريا.

لكن الدعوات لإرسال أشخاص مسجونين في ألمانيا، حتى لإنهاء محكوميتهم في سوريا، لن تتحقق. الأمر معقد جدًا جدًا. التسليم بين دول الاتحاد الأوروبي واضحٌ جدًا، لكنها معقدة مع دول خارج الاتحاد، حتى مع الولايات المتحدة. لننظر مثلًا إلى “خلية بيتلز” الداعشية، البريطانيون الذين سلمتهم بريطانيا إلى أمريكا، لأنهم كانوا هم مَن أعدموا الرهائن الأمريكيين. وُقّعت معاهدة بين البلدين، تنص على أنّ النيابة العامة في أمريكا لن تطلب عقوبة الإعدام بحقهما، لأن هذه العقوبة غير مطبقة في بريطانيا، لكنها مطبقة في أمريكا، التي أصدرت عليهم حكمًا بالسجن المؤبد. لذلك الموضوع أعقد بكثير من مطالبة نظرية.

*هل نخاطر، حال تأسيسنا دولة لا تقيم محاكماتٍ عادلة، بهروب مجرمين تابعين للنظام السوري إلى أوروبا، مستفيدين من عدم تسليمهم للقضاء السوري؟

إن هربوا إلى أوروبا، سنحاكمهم، كما نفعل الآن، وسنستمر. لكن تأسيس جسمٍ قضائي لا يحقق متطلبات المحاكمة العادلة، سيء. هذا سيعيدنا إلى ما كنا عليه، السبب الأكبر لخروج الثورة في سوريا كان الظلم، لو كان القضاء عادلًا في سوريا، لاستدعى عاطف نجيب، وقال له حول الموقوفين: خلال ٤٨ ساعة، إما توجّه التهم إليهم أو تعيدهم إلى بيوتهم، لا يمكنك اعتقالهم واختطافهم، أو أن تعذّب أطفالاَ، ثم تعتدي كلاميًا على أهلهم عندما يأتون لمقابلتك، وتطلق النار عليهم. لو كان هناك قضاء في سوريا لما وصلنا إلى ما نحن عليه. لذا إن كنت ستؤسس لقضاءٍ يحترم الناس وكراماتهم، ينبغي أن يكون عادلًا وحياديًا. الشرطة في أمريكا تضرب الناس وتعتدي عليهم، وأعدمت أشخاصاً سود، لكن القضاء يتدخل ويحاكم. ليس هناك دولة في العالم ليس فيه جهاز يعتدي وينتهك ويعذب، لكنك تتوجه إلى القضاء، هل هناك قضاء يساعد أم لا؟ في هذا السياق، من المفترض أن يكون إجراء محاكماتٍ عادلة أساسيًا في سوريا. ما دون ذلك، نحن ذاهبون إلى استيفاء الحق ذاتيّاً.

0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *