اليمن.. عندما تجف الآبار

462

“وضع اليمن اليوم هو لمحة عما يخبئه المستقبل لمناطق أخرى من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يجتمع تغير المناخ والنمو السكاني السريع ليضعوا المزيد والمزيد من الضغط على الموارد الأساسية للحياة البشرية، مثل المياه” بهذه العبارة افتتح تقرير للبنك (1) الدولي ما جرى رصده من أزمات تمر بها اليمن ويرتبط أغلبها بنقص المياه خاصة في ظل الحرب المستمرة منذ سنوات. 

وبحسب الأمم المتحدة يوجد باليمن أكثر من 18 مليون فرد لا يملكون القدرة للوصول لمياه نظيفة في بلد يقدر تعداد سكانه بحوالي 30 مليون نسمة، ولكن كونها واحدة من أفقر الدول، فلذلك يعتبر اليمن من بين أقل البلدان قدرة على التكيف مع نقص المياه.

وبالفعل يعاني سكان البلد القابع في الحرب والصراعات منذ سنوات من الجفاف، فطبقاً لبيانات أطلس المياه، فإن اليمن ضمن أكثر 30 دولة في العالم تعاني من الجفاف،  وهو ما جعل من أزمة التصحر المشكلة الأكبر، إذ يهدد التصحر بأشكاله وتداعياته المختلفة  حوالي 97 ٪ من الأراضي الصالحة للزراعة، ويتسبب في انخفاض الرقعة الزراعية بمقدار 3-5 ٪ سنويا. 

بحسب تقرير لـ مرصد الصراع والبيئة (2) يعد التزايد الكبير في استخدام الطاقة الشمسية لاستخراج المياه من باطن الآبار فيما تعرف بـ”المياه الجوفية”، وهي مياه تسربت من طبقات الأرض واستقرت في الأعماق، منها ما يتجدد مثل المياه الجوفية القريبة من الأنهار والتي تجد تغذية للآبار طول العام، ومنها ما يصعب تجدده مثل الموجود في صحراء الجزيرة العربية وفي وديان منها وادي تهامة في اليمن. 

وتعتني الدول بالمياه الجوفية وتعتبرها بمثابة مياه مخزنة للأجيال القادمة والأزمات، إلا أنه قد يحدث استنزاف زائد للمياه عندما يتم سحب كميات يفوق الداخل إليها من خلال الأمطار الموسمية، وهو ما حدث لليمن وتسبب تسبب في وصول منسوب المياه الجوفية إلى أدنى مستوياته منذ بداية تسجيلها في 2002.

تقرير مرصد الصراع والبيئة الصادر في الثلث الأول من 2021 دق ناقوس الخطر فيما يتعلق بالتوسع في الاعتماد على مضخات المياه العاملة بالطاقة الشمسية عوضاً عن الديزل نظراً لإرتفاع أسعار المحروقات.

“في بلد تعاني من الفقر المائي، حيث لا يجد أكثر من 20 مليون نسمة طعام صالح للأكل، تبعات عدم أخذ إجراءات ستكون فادحة”” كما يقول داوج وير Doug Weir مدير البحوث والسياسات، بمرصد الصراع والبيئة . ويتابع “لقد دمر الصراع كل شيء، ولم تعد للدولة القدرة على مراقبة أو السيطرة على مستويات مياه الآبار في جميع أنحاء البلاد”.

لكن وسط رعب الحرب، بدأت قصص تدعوا للتفائل بالظهور. فالبلد الذي واجه أشهر من انقطاع التيار الكهربائي مع انهيار الشبكة الوطنية في المراحل الأولى من الصراع، وخضع لتقلبات في أسواق الديزل، بدأ بقوة في تبني الطاقة الشمسية. فازدهرت أسواق الألواح الشمسية وانتشرت هذه الطاقة النظيفة لتساهم في التمكين من الوصول لخدمات مثل الصحة والتعليم والزراعة.

الزراعة في اليمن على وجه الخصوص من القطاعات التي اعتمدت لزمن طويل على الديزل لاستخراج المياه الجوفية، ولكن تسببت الأزمات المتتالية في أسواق الوقود أثناء فترات الصراع في خسائر فادحة. هنا ظهر استخدام الطاقة الشمسية كحل سحري يملك القدرة على كسر هذه الحلقة المتأزمة، وهو ما جرى تنفيذه، وظهرت تقارير حول كيف تحولت الأراضي غير المنتجة إلى أراض خصبة مرة أخرى. استثمرت وكالات التنمية الدولية في الطاقة الشمسية، وتقدم الحكومة عطاءات لمشاريع ضخمة ، والقطاع الخاص يبشر بنشره لهذه التكنولوجيا المنقذة للحياة. يبدو أن استخدام الطاقة الشمسية من قبل المزارعين الفرديين مهم أيضًا.

قام فريق بحثي من مرصد الصراع والبيئة باستخدام بيانات الاستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية لتقييم التغيرات في مستويات المياه الجوفية في اليمن، “بالرغم من ارتفاع معدل هطول الأمطار خلال النزاع، وجدنا انخفاضًا حادًا في مستويات المياه منذ عام 2018” بحسب داوج.

وذكر التقرير أنه من المرجح ارتباط هذا الإنخفاض بزيادة استخدام الطاقة الشمسية للري الزراعي، والتي توسعت بشكل كبير بسبب ارتفاع أسعار وقود الديزل وعدم توافره، مما يجعل الطاقة الشمسية بديل رخيص ومستقر، بجانب أن إرتفاع أسعار المواد الغذائية في ظل الصراع جعل من الزراعة قطاع مربح.

هدم النظام القديم وإحلال ما هو أسوأ

لعقود من الزمان اعتمدت اليمن على أنماط متطورة للغاية لإدارة المياه يستطيع هذا النظام استغلال مياه الأمطار التي تهطل في الشتاء وتخزينها في آبار محفورة يدوياً، لاستخدامها طوال العام كما يقول التقرير، وعوضا عن فهم هذا النظام وتدعيمه، دعمت المؤسسات الخارجية المعنية بالتنمية التحول لنظام زراعية أخرى، ترتكز على ري المحاصيل من خلال ضخ المياه من الآبار الجوفية الناتجة عن تسرب مياه الأمطار لداخل الأرض باستخدام مضخات تعمل بالوقود -الديزل- لهذا الغرض .

ويروي أنتوني ميلروي Anthony Milroy الباحث البريطاني المتخصص في النظم الزراعية وأحد من أعدوا التقرير اليمن، كيف أن الزراعة في اليمن مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة الجغرافية للبلاد ومناخها.  وهي طبيعة جبلية، استطاع السكان منذ زمن بعيد، ابتكار نظام زراعي يعتمد على ما يعرف بالمدرجات لزراعة سفوح الجبال.

المدرجات أو المصاطب هو نظام معقد قائم على تكوين ما يشبه السلالم أو الدرج على سطح الجبال، لكل مدرج ارتفاع وسعة محددة بحسابات هندسية، بحيث تتسع مساحة كل مدرج بالزراعة عليه، أما عن المياه، فيتم شق قنوات من أعلى الجبل لأسفله تم خلال المدرجات، وعند بعض المدرجات تحفر آبار لتجميع المياه شتاءً واستخدامها في ري الأراضي طوال العام.

 قول ميلروي : “عندما زرت اليمن في السبعينات بتكليف من الحكومة البريطانية، كان الهدف نقل الخبرات التي نمتلكها للمزارعين لتطوير الزراعة في اليمن” لكن ميلروي تفاجئ مما رأى من نظام متقدم ومعقد للغاية “لم يكن لدينا أي شيء نعلّمهم إياه، كان لديهم الكثير ليعلمونا إياه”. 

نظام الري المعتمد على جمع مياه الأمطار وحصدها من خلال شق قنوات جافه، تمتلئ بالمياه في موسم الفيضانات، نشأ في اليمن منذ 5000 عام، مع ذلك ، لكن وبالرغم من ملائمته للمجتمع والطبيعة الجيولوجية للدولة، لم تعترف وكالات التنمية الدولية مثل البنك الدولي بهذا النظام، وشرعت في الترويج لاستخراج المياه الجوفية كمفتاح للتنمية الزراعية في اليمن، تم التخلي عن الحبوب التقليدية لصالح المحاصيل النقدية للتصدير، بينما أدى استيراد القمح الرخيص من أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا إلى تغيير النظام الغذائي اليمني.

وفقًا لميلروي: “أدى التخلي عن نظم الزراعة المطرية المعتمدة على المصاطب أو المدرجات على مدى العقود الخمسة الماضية إلى فقدان السيطرة على المياه الجارية، وبالتالي تفاقم الفيضانات المفاجئة وفقدان المناطق الخصبة والمحاصيل الغذائية. وهذا هو التأثير المباشر للتخلي عن حصاد مياه الأمطار وتخزينها بعد سبعة آلاف عام من الحفاظ على تلك التقاليد “

نظام الري المعتمد على جمع مياه الأمطار وحصدها من خلال شق قنوات جافه، تمتلئ بالمياه في موسم الفيضانات، نشأ في اليمن منذ 5000 عام

يتفق مساعد عقلان باحث بمعهد تعليم المياه IHE Delft مع ما ذكره ميلروي” في السبعينيات عند وصول تقنية الحفر لليمن، بدأ استخدام المياه الجوفية بشكل أوسع ودعمت الحكومة الديزل، ومع الوقت تقلصت الزراعة المطرية و انتشرت الزراعة المروية على نطاق أوسع، وهذا خلق أزمة تناقص المياه والتي تتراوح ما بين مترين إلى 6 أمتار سنويا حالياً”.

سلة غذاء اليمن.. إلى أين؟

وركزت الدراسة التي قام بها مرصد البيئة والسلام على المناطق الغربية من اليمن، ومنها محافظة تهامة الساحلية، وجرى تحليل بيانات المياه الجوفية في هذه المنطقة الزراعية. 

يعلق عبد القادر الخراز أستاذ الأثر البيئي المشارك بكلية علوم البحار والبيئة بجامعة الحديدة أن التقرير يعطي مؤشرات استرشادية جيدة وهامة، ويتم بعدها إلى عمل مسوحات ميدانية لتأكيد ما جرى ذكره.

حددت الدراسة عدد من المناطق كانت الأشد تضرراً، حيث نقصت كميات المياه الجوفية فيها بشكل ملحوظ، وكانت هذه المناطق هي أيضا الأكثر أعتماداً على الزراعة.

ويتابع “المنطقة التي ذكرتها الدراسة في سهل تهامة، وهي تعتبر بمثابة سلة غذاء اليمن، وبالطبع غياب الرقابة على السحب من الآبار في ظل توفر طاقة مجانية، قد يقود إلى إسراف في السحب”

وبحسب تقرير البنك الدولي دعمت المؤسسات المانحة بالفعل تركيب أنظمة الطاقة الشمسية على عدد ضخم من آبار المياه و في 208 مرفق صحي وتعليمي،وذلك في خطوة لتخطي أزمة نقص الطاقة التي تسببت الحرب الدائرة منذ سنوات في زيادة حدتها.

يرى عبد الله نعمان، أستاذ في قسم الهندسة المدنية ومركز المياه والبيئة (WEC) في جامعة صنعاء أن استخدام الطاقة الشمسية  له إيجابيات عديدة، فهو يحد من التلوث الانبعاثات الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري، ولكنه يحتاج إلى ضوابط : “من المهم التحكم في حجم نظام الطاقة الممنوحة للمزارع من قبل المنظمات، بما لا يسمح له من الضخ من اعماق كبيرة”.

وأوضح نعمان أن منبع المشكلة في استخدام الطاقة الشمسية هو ما قامت به المنظمات الإغاثية في اليمن من منح المزارعين أنظمة الطاقة الشمسية بالمجان، مما شجع المزارع على ضخ المياه من الآبار باستمرار “صيفا  وشتاء طالما  توفرت الشمس في بلدنا المشمسة” وهو ما من شأنه تجفيف الآبار التي تعد خزاناً للطوارئ وللأجيال القادمة.

 ويرى نعمان أن الحل الأنسب هو منع المنظمات الإغاثية من منح نظم الطاقة الشمسية للمزارعين والاقتصار فقط على منحها لأغراض إغاثية كضخ مياه للشرب أو توليد كهرباء للمنازل والمستشفيات والمدارس.

أزمة جفاف الآبار في اليمن كانت جزء من تغطية كبيرة أفردتها مجلة ساينس(4)  لموضوع جفاف الآبار، والتي سلطت الضوء على الأزمة من خلال بحث نشر في شهر أبريل 2021 ذكر أن 20% من الآبار الجوفية مهددة بالنضوب بسبب الضخ الزائد للمياه، وبرر البحث هذا المعدل المقلق بأن أغلب المياه التي نعتمد عليها للشرب وري المحصولات في الوقت الراهن تأتي من جوف الأرض، كما تشكل المياه الجوفية المصدر الوحيد للشرب إلى 2 ونصف مليون نسمة حول العالم. واقترح الباحثون عدداً من الحلول منها إعادة استخدام المياه وتحليتها.

الخراز يرى أنه لابد من وجود حملات توعية للمزارعين لضبط عملية السحب، وينصح بتركيب عدادات على أجهزة ضخ المياه. “لدينا أزمة ليس فقط في مدى توفر المياه ولكن في إدارة هذا المورد، فالمنطقة الجنوبية الجبلية والتي تشهد أمطار بمعدلات عالية لا يستفاد منها نهائياً بسبب عدم وجود سبل حصد الأمطار”.

 20% من الآبار الجوفية مهددة بالنضوب بسبب الضخ الزائد للمياه

تقرير مرصد الصراع والبيئة أورد أيضاً عدد من التوصيات للحد من تدهور المياه الجوفية منها إنشاء قاعدة بيانات لرصد وتسجيل كمية المياه في اليمن، ومعدلات الاستنزاف وإعادة الشحن للآبار، إلى جانب الحد من انتشار أنظمة الري بالطاقة الشمسية وأن يشمل قرار استخدامها رأي خبراء يمنيين ودوليين، والحد من التشرذم في القرارات الناجم عن الصراع. 

يقول داوج أن هناك توصية رئيسية أخرى تتمثل في أن تجري الجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية تقييمات للآثار الواقعة على الأرض لتحديد أي مخاطر للمياه الجوفية مرتبطة بالمشاريع وإلا سيكون  “هناك تهديدات كبيرة من خلال الاستمرار في استنزاف المياه الجوفية”

أزمة المياه في اليمن ليست قديمة، فالبلد الذي أعتاد على بناء السدود لحصاد الأمطار منذ قديم الأزل، عرف شعبه كيف يمكن التكيف مع الجفاف والحفاظ على المياه، إلا أن الأزمات المتتالية والحرب الدائرة منذ 8 سنوات ألحقت خسائر كبيرة بالبلاد، وفاقمت أزمة المياه بحسب تقرير للأمم المتحدة، ووصفتها بأنها أكبر كارثة إنسانية في العالم، حيث يعاني 80% من السكان من انعدام الأمن الغذائي أو نقص الغذاء، لذا يحتاج البلد لتحرك عاجل.

المصادر:

(1)World Bank Group. (2014, November 25). Future impact of climate change visible now in Yemen. World Bank. Retrieved June 29, 2022, from https://www.worldbank.org/en/news/feature/2014/11/24/future-impact-of-climate-change-visible-now-in-yemen 

(2) Groundwater depletion clouds Yemen’s solar revolution. CEOBS. (2021, July 7). Retrieved June 29, 2022, from https://ceobs.org/groundwater-depletion-clouds-yemens-solar-energy-revolution/

(3) World Bank Group. (2021, June 7). World Bank approves $50 million to continue improving critical urban services in Yemen. World Bank. Retrieved June 29, 2022, from https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2021/06/07/world-bank-approves-50-million-to-continue-improving-critical-urban-services-in-yemen

(4) Contents | science 372, 6540. Science . (n.d.). Retrieved June 29, 2022, from https://www.science.org/toc/science/372/6540 

0
رحاب عبد المحسن
WRITEN BY

رحاب عبد المحسن

صحفية علمية، تغطي قضايا البيئة والتغيرات المناخية بشكل مكثف. في عام 2021، حصلت رحاب على ثلاث جوائز من حفل جوائز النيل للإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *