عبير من سوريا على مفترق الطرق من جديد في الدنمارك

563
استمع إلي المقال

بعد أن تعرّض المدنيون في سوريا إلى القتل و الإبادة، لجأ الآلاف منهم إلى مختلف أنحاء العالم، وكانت أوروبا وجهة للكثيرين حيث الأمل الأخير بعد أن فقد الناس عائلاتهم وبيوتهم في سوريا، وكانت الدنمارك إحدى الدول التي رأى فيها الهاربون من ظلم النظام أمانًا كبيرًا يقضي على خوفهم من المستقبل. بعد وصولهم بدأ الناس هناك بتعلم اللغة الدنماركية ثم التوجه إلى التعليم أو حياة العمل بعد ذلك. 

وصلت الشابة عبير (26 عاماً) من سوريا إلى الدنمارك في منتصف عام 2014 بعد رحلة طويلة مليئة بالصعوبات والتحديات انتهت بوصولها مع والدها وشقيقتها تسنيم إلى كوبنهاجن، لتقوم الشرطة بعد ثلاث أيام في مركز ساندهولم Sandholm بنقلهم إلى مدينة راندرز Randers التي بقوا فيها نحو سبعة أشهر حتى الحصول على الإقامة التي ستمكنهم فيما بعد من الحصول على حقوقهم المدنية فوق الأراضي الدنماركية.
تعد فترة انتظار الإقامة فترة صعبة للغاية إذ أن اللاجئ يعيش فيها نوعًا من التوتر و القلق و ترّبص الرد المنتظر، لا سيما مع انخفاض الدخل الفردي هناك حيث يحصل الفرد البالغ على مبلغ بسيط جداً لا يتجاوز المائة دولار. لا يستطيع هذا المبلغ تسديد أدنى احتياجات اللاجئ المعيشية، لتصبح فكرة الحصول على الإقامة هي الخلاص الذهبي الذي قد يحرّر اللاجىء من ضيق عيشه.
عملية الحصول على الإقامة تتم تدريجيًا وعلى مراحل يتقدم فيها اللاجئ مرحلة تلو الأخرى إلى أن يتم دراسة ملفه وتقديم الإقامة له.

عبير من سوريا

حصلت الشابة عبير ووالدها وشقيقتها على رد القبول بالحصول على الإقامة في شهر يناير في عام 2015 وانتقلوا سويّة إلى مدينة برونديرسليف Brønderslev حيث استقروا هناك بمنزل صغير جداً و بشكل مؤقت، لا سيما وأن عبير كانت في الوقت ذلك تحاول مع والدها و شقيقتها إحضار شقيقتها وشقيقها من خلال لم الشمل مع والدتهم، فكان لا بد من البحث عن منزل كبير يناسب العائلة بأكملها بعد وصولها فيما بعد.

تقول عبير: ” كل شيء كان يسير على ما يرام إلى أن حقق حزباً معادياً للأجانب فوزًا وتسلم الحكومة الجديدة. أول ما قام به الحزب هو تخفيض دخل اللاجئ إلى حد متدني جداً يكاد لا يغطي أدنى احتياجاته، في الحقيقة لقد كان الوضع كارثياً للجميع”. وتتابع عبير: “ولقد شكلت الإجراءات الجديدة التي اتخذها الحزب ضغطًا كبيرًا على المهاجرين، فكانت القرارات مجحفة جداً بحقهم حتى وصل بنا الحال جميعا إلى تقسيط الفواتير المستحقة على مدى أشهر طويلة نتيجة تردي الوضع الاقتصادي لدينا، ذلك وقد شكّل هذا الضغط الاقتصادي عبئاً اقتصادياً على الجهات الراعية لأمور اللاجئين، حيث أصبحت هذه الجهات هي المسؤول الأكبر عن مساندة اللاجئين في تغطيتهم لمصاريف المعيشة و دفع الفواتير وغيرها.”

لم الشمل بعد ذلك كان كفيلاً لنسيان المعاناة الاقتصادية بعد تخفيض الرواتب. تقول عبير بخصوص ذلك:
“بعد محاولات طويلة خاضها أبي في محاولة إحضار والدتي وأخي وأختي للدنمارك، تمكّنا و أخيراً من الاجتماع جميعًا على مائدة العائلة في أيلول/سبتمبر 2015. في تلك اللحظة اعتقدنا أننا قد استطعنا النجاة من الحرب والنظام في سوريا وأن الدنمارك بالنسبة لنا هي المكان الآمن”

الترحال السوري – تصميم مارك نيلسون

من حلم الاستقرار إلى كوابيس الترحيل

و على الرغم من فرض الحكومة إجراءات جديدة قد غيّرت في حياة اللاجئين و قلبتها رأساً على عقب، إلا أن قرار الترحيل لم يكن يأتي على البال إطلاقًا، حيث كانت الدنمارك لم تزل حينئذ محطة النجاة لدى الهارب من ظلم السلطات السورية، ولم يكن الترحيل ولا مجرد فكرة شاردة قد تأتي لعقل الناجي من نيران تلك الحرب الطاحنة.  رغم أن ممثلي الحكومة الجديدة كانوا قد عرفوا بسياستهم المتبعة في تحضير المفاجأت الضارة لأولئك اللاجئين. تقول عبير عن الأمر:
” بدأت الأمور تشبه حرب باردة شنتها رئيسة الحكومة الجديدة ضد اللاجئين وسببت لنا ضغوطًا نفسية لا تنتهي. وصل الأمر لأن تحتفي وزيرة الهجرة إنجير ستويبيرغ  Inger Støjberg بقالب كيك كبير عند إصدار حزمة قوانين جديدة ضد اللاجئين في عام 2017. فيما قامت رئيسة الحكومة Mette Frederiksen الجديدة المنتخبة عام 2019 بالتصريح على حساباتها الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف عدائية ضد اللاجئين. اتسمت تلك التصريحات بالنبرة العنصرية العلنية” 

قرارات مجحفة تقضي على آمال العاملين

بعد تعلم عبير وأسرتها اللغة الدنماركية بشكل جيد و متقن، حقق والد عبير نجاحًا ملحوظاً في تأسيس شركته الخاصة للعمل في قيادة سيارة الأجرة العمومية (التاكسي) بعد رحلة طويلة كان قد خاضها ابتداءً من تعلم اللغة ثم العمل المتنقل بين عدة مجالات لجني المال ثم نهايةً بتأسيس هذا المشروع الناجح، ولقد تمكنت والدة عبير من تعلم لغة البلاد ووصلت في دراستها للمرحلة الإعدادية. وما إن بدأت حياة الأسرة تأخذ منحى الاستقرار كما كانت عليه قبل قصف قوات النظام لمناطقهم في سوريا، حتى بدأت مفاجئات جديدة من الحكومة تظهر سريعًا قوضت ملامح الاستقرار التي تحققت.

في عام 2020 بدأت الجهات المختصة بالهجرة واللجوء بإرسال إيميلات مفاجئة للاجئين تخبرهم فيها عن إعلان دمشق وريفها منطقة آمنة، وتخبرهم فيها بأنها ستقوم بإعادة فتح ملفات اللجوء الخاصة بهم ودراسة طلباتهم من جديد إلى أن يقروا أحقية الملف و يتخذوا بحقه الإجراء المناسب.
رغم أن هذه الرسائل الإلكترونية كانت عابرة بالنسبة للحكومة، إلا أنها استطاعت أن تشكل قلقًا كبيرًا عند اللاجئين وباتت حديثهم الأول على وسائل التواصل الاجتماعي. تفاقم أزمة الكورونا قد جعل الإجراءات الحكومية تزداد بطئاً في دراسة ملفات اللاجئين، و ما أن تحسّن الحال في مكافحة الوباء، حتى بدأت الجهات المعنية بإرسال مواعيد محددة للاجئين من أجل استدعائهم إلى المحكمة و إعادة النظر في وضعهم الأمني، من أجل أن تقوم المحكمة بتقرير بقائهم فوق الأراضي الدنماركية. تقول عبير عن الأمر:
” في حال تم إقرار الترحيل، فإنه يتم ترحيل اللاجئين لنفس المركز الذي عاشوا فيه في البداية عند دراسة الملف. وذلك بغض النظر عما إذا تمكنت السلطات الدنماركية من تحقيق أمر الترحيل مع البلد الأصلي. مما يعني أن اللاجئ قد يقيم في المكان فترة طويلة قد تمتد لسنوات مسلوباً حقوقه في المواطنة حتى تتمكن الحكومة من ترحيله إلى دمشق التي زعمت الحكومة الجديدة أنها آمنة.” 

من الاستقرار إلى الترحال


 تصف عبير القرارات بالمخيبة والتي حولت الشعور بالأمل إلى شعور بالخيبة و الخذلان:
“أثرت تلك القرارات بشكل سلبي على نفسية والدتي التي قد تعبت الترحال والتنقل وعدم الاستقرار، وقد ساء وضعها النفسي بشكل ملحوظ عندما قامت الحكومة بالبدء بإلغاء الإقامة الإنسانية والاعتراف بالاقامة السياسية فقط، لا سيما وأن عائلتي كلها قد حصلت عند وصولها على الإقامة الإنسانية عند وصولها.”

تسلمت شقيقة عبير، تسنيم (20 عاماً)، أمراً في منتصف أبريل/نيسان 2021 يخص جلسة محاكمة لإعادة النظر في قضيتها بتاريخ 13- مايو/أيّار. البريد تلقته تسنيم مع الكثير من طلاب السنة الأخيرة في التعليم الثانوي من السوريين، وذلك لحضور محاكمة قبل أيام قليلة من امتحاناتهم الثانوية الأخيرة. البعض تلقى الرد من المحكمة برفض الإقامة بشكل فوري بعد المحاكمة ولم يتسنى لهم بذلك حتى التقدم إلى الامتحانات.


تقول عبير حول تلك الفترة:” كنا خائفين بشكل كبير على شقيقتي تسنيم، وأن يتم ترحيلها بشكل مفاجئ. لكن بعد أسبوع من تلقى تسنيم للبريد، وهو الأمر المضحك المبكي، أن والدي تلقى بريد مماثل بخصوص جلسة إعادة المحاكمة. صحيح أن الأمر قد يعني ترحيل العائلة بشكل كامل خصوصاً وأن ملف البقية مرتبط بملف والدي، لكن أن نكون سوياً في الضراء هو حل أفضل من أن يتم إقرار الترحيل لشقيقتي بمفردها”
جرت جلسة إعادة النظر في قضية لجوء والد عبير وشقيقتها تسنيم بتاريخ 13- مايو/أيّار، حيث استمرت جلسة والدها مدة 8 ساعات منذ التاسعة صباحاً وحتى الخامسة عصراً، فيما استمرت جلسة شقيقتها تسنيم مدة 4 ساعات من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً، ولم تتلق العائلة رداً حتى الآن
تؤكد عبير لدار أن أوضاع اللاجئين قبل الحكومة الجديدة لا تشبه على الإطلاق أوضاعهم اليوم، فالوضع الاقتصادي لم يكن هو التحول السلبي الوحيد الذي طرأ على حياة اللاجئين في الدنمارك وإنما الوضع النفسي الذي ازداد سوءاً مما أثر بشكل كبير على الكثيرين الذين لم يتحملوا فكرة الترحيل بعد قضاء السنوات الآخيرة في تعلم لغة البلاد المحكية و التعرف على ثقافته و التأقلم على العيش فيه والسعي الشديد في محاولة بدء حياة جديدة يسودها الأمن والاستقرار. بالإضافة إلى التأثير السلبي الذي تركته هذه القرارات على نفسية الأطفال الذين قضوا سنواتهم الأولى من حياتهم فوق الأراضي الدنماركية وحصلوا فيها على أول الأصدقاء في حياتهم، كما هو الحال بالنسبة لأشقاء عبير الذين يصعب عليهم فهم هذه السياسة المجحفة بحقهم و المفاجئة لطفولتهم. لتتحول الدنمارك من بلد أم لهم يناشد حقوقهم المدنية إلى البلد التي تطالبهم بالعودة إلى بلدهم الأم، سوريا، التي لا يأمن فيها والداهم من ظلم الحكومة وخطر الاعتقال منذ الهبوط الأول في مطار دمشق.



كتب المقال: هيا توركو
كاتبة و مدوّنة، مهتمة في القضايا الاجتماعية و الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *