حرب بتقنية HD ويعقوب اللص الظريف

716

حلقة جديدة من استعراض الإجرام والقوة والغطرسة الإسرائيلية، شهدها العالم أجمع في الفترة الماضية. ساحة العرض كالعادة هي الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأحداث توزعت بين حي الشيخ جراح في القدس وقطاع غزة المحاصر. الحكاية بدأت مع مجموعة تغريدات وفيديوهات وصور نشرتها منى الكرد ابنة حي الشيخ جراح في القدس، فضحت عبرها ما يعيشه أبناء الحي الفلسطيني المقدسي من تمييز العنصري وعمليات التهجير القسري من بيوتهم التي يتعرضون لها باستمرار، على يد مستوطنين يهود بحماية قوات الاحتلال، تنفيذاً لسياسة وخطة تهويد القدس، وتقديم بيوت الفلسطينيين على طبق من ذهب لبعض المستوطنين القادمين من بلاد بعيدة وراء البحار. دمر بعد ذلك جيش الاحتلال أحياءً كاملة على رؤوس سكانها في قطاع غزة المحاصر مخلفاً آلاف الضحايا بين قتيل وجريح رداً على صواريخ انطلقت من القطاع. مفارقات إعلامية ساخرة وموجعة وربما صادمة على حد سواء، سجلتها وسائل التواصل الاجتماعية وماكينات المؤسسات الإعلامية العالمية بما فيها الإعلام النرويجي.  

يعقوب … سوبر ستار الاحتلال!

مفاجأة من العيار الثقيل فجرها المستوطن الإسرائيلي (يعقوب) حولته إلى سوبر ستار إعلامي بزمن قياسي حول العالم. سجال يومي قصير سجل على كاميرا هاتف محمول، لخص حكاية احتلال إسرائيلي لأرض فلسطين دام أكثر من 70 عاماً. لم تتوقع منى الكرد ردة الفعل الكبيرة، والعاصفة الإعلامية التي حققها تسجيل لأحد حواراتها اليومية الاعتيادية مع يعقوب، المستوطن الإسرائيلي القادم من حي لونج إيلاند في مدينة نيويورك الأمريكية البعيدة، ليستوطن جزءً كبيراً من بيت عائلتها، محمياً بقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي وقوانين دولة الاحتلال المتحيزة دائماً لقضية تهويد القدس، وتطهريها عرقياً من سكانها العرب، ومنح منازلهم بشكل تدريجي لمستوطنين إسرائيليين يهود. أشعل هذا الفيديو القصير الذي لا تتعدى مدته الدقيقة الواحدة، مواقع التواصل الاجتماعي كافة، وعرضته العديد من وسائل العالمية بما فيها تلفزيون NRK مرات عدة أثناء تغطيتها الإخبارية لأحداث غزة والشيخ جراح الأخيرة.

مفاجأة من العيار الثقيل فجرها المستوطن الإسرائيلي (يعقوب) حولته إلى سوبر ستار إعلامي بزمن قياسي حول العالم


المضحك المبكي في الحكاية ليس فقط رد يعقوب واعترافه بسرقة جزء من المنزل عندما قال “إن لم أسرقه أنا سوف يأتي أحد آخر لسرقته” فاضحاً بعفويته وبساطته غير محسوبة النتائج، تاريخ طويل من الكذب وتدليس الحقائق التي عاش عليها الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي لعقود طويلة، إنما طلبه بلهجة نيويوركية واضحة من منى وعائلتها بالعودة إلى حيفا، المدينة التي لجئوا منها عام   1948 رداً منه على طلب منى وأفراد عائلتها له بالعودة إلى نيويورك! هل كان صاحبنا يعقوب يدرك أن حيفا هي مدينة ساحلية جميلة جداً، تقع على ساحل فلسطين، هجر منها الغالبية العظمة من سكانها رغما عنهم في نكبة عام 1948ومنهم عائلتي أنا كاتب هذه الكلمات؟ والفرق الوحيد بيني وبين منى الكرد وعائلتها (كما هو الحال مع الكثير من اللاجئين الفلسطينيين) أن جدي فرضت عليه ظروف قاهرة اللجوء مع عائلته إلى سوريا، بينما شاء القدر أن تختار عائلة منى الكرد حي الشيخ جراح في مدينة القدس مكاناً للجوء؟ هل يدرك يعقوب السارق (باعترافه العلني المسجل) أن نيويورك المدينة التي جاء منها تقع في قارة بعيدة آلاف الكيلو مترات عن البيت الذي سرقه من العائلة الفلسطينية المهجرة قسراً من مدينة حيفا التي لا تبعد سوى عشرات الكيلو مترات فقط عن القدس؟ لاحقاً وقبل عدة أيام عاد تلفزيون NRK إلى قضية صاحبنا يعقوب لما أثارته من تساؤلات، عندما عرض  حوار صحفي قصير سجل على عجالة معه على باب البيت الذي سرقه، حاول فيها جاهداً في أجوبته التملص مما قاله سابقاً حول مسالة السرقة. اتهم يعقوب من صوره أن كلامه انتزع من سياقه، وأنه كان يرتدي البيجاما ولم يكن ينتبه أن هناك أحد يسترق التسجيل! لو كان القائمون على عمل منظمة الاستيطان التي أحضرت يعقوب من نيويورك إلى القدس،على علم أنه سينطق باعترافه الصادم والفاضح والواضح أمام العالم أجمع، لما تكبلت عناء تكاليف سفره من وطنه الأصلي أمريكا، ليزاحم أبناء الأرض الأصليين على بيتهم وحقهم الشرعي في وطنهم، وتركت يعقوب يجوب شوارع وأزقة مدينته نيويورك! حكاية المستوطن يعقوب فضيحة أسقطت ورق التوت عن عورة الاحتلال، فهل أدرك الغرب مغيب التفكير والوعي ومجمل الدول العربية المطبعة حديثاً مع حكومة دولة إسرائيل المحتلة حقيقة المؤامرة؟

تدمير أبراج غزة والحرب على الإعلام

يذكر تاريخ الحروب القديمة، طقوس نزال وتحدي أبطال الجيوش المتحاربة. يصطف جنود الجيوش مقابل بعضهم البعض، ويصدح صوت المنادي لدعوة أعتى وأقوى أبطال كلا الجانبين للنزال العلني. يتواجه الأبطال في ساحة ومع سقوط الفارس المهزوم أرضاً، يصرخ الجيش الخصم بصيحات الانتصار والتهليل باسم الفارس المنتصر وتدق طبول النصر. لم يختلف الحال كثيراً في حرب غزة الأخيرة، لكن أدوات وأسلحة الحرب هي التي تغيرت فقط. ساحة الحرب أو النزال هي دائماً المناطق السكنية للناس العزل في غزة، وكعادته يتفاخر جيش الاحتلال الإسرائيلي بقدراته الحربية والتدميرية وتقنيات القتل والإجرام، في الطرف المقابل يتمسك الفلسطينيون بالصمود وإرادة البقاء على قيد الحياة، وبكشف جرائم الاحتلال عبر ما يتسنى لهم من وسائل إعلام وتواصل مع العالم الخارجي.


فلمن كانت الغلبة في جولة الحرب الأخيرة؟ أكثر ما يرعب الاحتلال الإسرائيلي هو افتضاح إجرامه في العالم الغربي، هذا ما سيؤثر بشكل كبير على حجم التأييد والتعاطف والدعم المادي والمعنوي العالمي له، وتكذيب للصورة والسيناريو المزيف، التي عملت مؤسسات إعلامية عالمية كبيرة وعريقة جداً، على تكريسه على مدى عقود طويلة. في هذه الجولة من الحرب، فشلت مجمل وسائل الإعلام العالمية الضخمة الخاضعة لسيطرة اللوبي الصهيوني والتي تتبنى دائماً الرواية الاسرائيلية، في التعتم أو تزييف الحقائق. أحداث الحرب والاعتداء على غزة كانت تبث أولاً بأول على منصات كثيرة وصفحات بالجملة على وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة، وبدقة عالية جداً وصلت للعالم أجمع بتقنية FULL HD، لم تترك لمتابعها فرصة التشكيك هذه المرة بمصداقيتها. هذا ما أحدث تعاطفاً عالمياً غير مسبوق مع القضية الفلسطينية وضحايا غزة. مظاهرات حاشدة كثيرة خرجت في مدن عالمية كبرى، استنكر وندد المشاركون فيها بحجم الاجرام الإسرائيلي، كما هو الحال في مجمل المدن النرويجية الكبرى، بالإضافة الى إطلاق حملات تفاعل كبيرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعية، مثل الهاشتاغات المناصرة لغزة مثل (أنقذوا الشيخ جراح- غزة تحترق- وغيرها)  وتغيير صور الصفحات الشخصية لمستخدمي لموقع الفيسبوك الأزرق لتتضمن العلم الفلسطيني وبعض الشعارات المؤيدة للحق الفلسطيني المسلوب، والملفت بالأمر هو اشتراك عدد كبير جداً من المواطنين النرويجيين في هذه الحملات، في ظاهرة فاقت إلى حد كبير جداً، تلك الحملة التي أطلقها الطبيب النرويجي مادس جيلبرت عام 2008 ، والتي كان سببها المباشر رسالة نصية أرسلها جيلبرت  إلى معارفه وأصدقائه في النرويج ،عندما كان يعمل طبيباً متطوعاً في قسم الطوارئ في  مشفى الشفاء- غزة  أثناء العدوان الإسرائيلي. وصف الطبيب النرويجي في رسالته:(… إننا نسبح بين الموت والدم ومبتوري الأطراف. الكثير من الأطفال. امرأة الحامل. لم أرَ أبداً شيا رهيبا كهذا. الآن نسمع الدبابات. أنقل القصة، مررها، أصرخها! أي شيء. افعل شيئا! افعل أكثر! اننا نعيش في كتب التاريخ الآن، كلنا!) عادة ما يصدق ويتفاعل النرويجيون فيما بينهم، بشكل أكبر عندما يخبرهم شخص ما ينتمي لثقافة أخرى. إنها حقيقة تصديق أبناء الثقافة الواحدة، لكن أمام أحداث حرب غزة الأخيرة، لم يكن جميع المواطنين النرويجيين أو غيرهم من سكان العالم أجمع، بحاجة لشهادة من الدكتور جيلبرت أو غيره، كل الأجرام الإسرائيلي سواء كان يحدث في حي الشيخ جراح، أم في قطاع غزة، كان ينقل على الهواء مباشرة، سواء على شاشات المحطات الإعلامية العالمية العاملة في غزة، أم على صفحات التواصل الاجتماعي. يقتل النساء والأطفال والعزل على الهواء مباشرة. كل العالم كان يرى ويتابع لحظة بلحظة.

الملفت بالأمر هو اشتراك عدد كبير جداً من المواطنين النرويجيين في الحملات المناصرة لفلسطين، في ظاهرة فاقت إلى حد كبير جداً، تلك الحملة التي أطلقها الطبيب النرويجي مادس جيلبرت عام 2008


تحولت بيوت أهالي غزة إلى أنقاض على رأس سكانها العزل. انتشال للجثث بأساليب ومعدات بدائية، كل هذا شاهده العالم أجمع. هذا ما أصاب عنجهية الاحتلال الإسرائيلي بالجنون، فعملت طائراته الحربية على تدمير مجمل أبراج غزة السكنية والتجارية. في اليوم السادس للعدوان، ودون سبب مقنع أو واضح، أمر الجيش الإسرائيلي أخلاء برج الجلاء. البناء المكون من 13 طابقاً ويعتبر أعلى بناء في قطاع غزة، وكان يشغل مكاتب للعديد من الوسائل الإعلامية الإخبارية العالمية  مثل الجزيرة والاشوسيتيد برس الأمريكية، ومكاتب شركات مزود الأنترنت وبعضاً من الشقق السكنية الخاصة. حجة الاحتلال الإسرائيلي كالعادة كانت أن حماس تطلق الصواريخ من المناطق السكنية المحيطة بالبرج، وتستخدم البرج المستهدف للأنشطة الإعلامية والعسكرية. تعرض برج الجلاء لست غارات قبل أن ينهار تماماً ويتحول إلى كتلة من الركام. المفارقة الموجعة تكمن في اتصال أبو حسام صاحب المبنى مع ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي أعطى مهلة ساعة واحدة لأخلاء البرج قبل قصفه. توسل أبو حسام كما ظهر على شاشات محطات إعلامية عالمية ضابط المخابرات لزيادة المهلة 10 دقائق فقط، ليمنح فرصة لمراسلي محطة الجزيرة القطرية لأخلاء بعض المعدات وأشرطة الأرشيف من مكاتبهم قبل قصفها. لم يقبل الضابط الذي زاد من حدة غضبه وتحذيراته بإخلاء مسؤوليته عن أية أصابات محتملة. أيضاً تابع العالم كله جملة هذه الحقائق والصور المباشرة، ولم تفلح جميع محاولات التضليل والتكذيب التي اعتادت على تسويغها ونشرها آلة الإعلام الإسرائيلي. الحقيقة وصلت بشكل سريع ومباشر هذه المرة. صور وأسماء الـ 67 طفلاً فلسطينياً الذين قضوا تحت ركام بيوتهم ونيران صواريخ طائرات الاحتلال إسرائيلي تصدرت الصفحات الأولى لمجمل الصحف العالمية والعربية! على عقلية الاحتلال الإسرائيلي التفكير بخطط وآليات تضليل إعلامي جديدة كلياً الآن، ليستدرك ما يمكن استدراكه، وليحاول تلميع صورته الإنسانية والديمقراطية الزائفة والساقطة دائماً وأبداً.  

كتب المقال: يوحنا زرزر
صحفي فلسطيني سوري يقيم في النرويج. من أسرة دار يكتب في شؤون الثقافة والاندماج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *