إضاءات في كتاب الاستشراق

592

يعتبر كتاب “الاستشراق” للكاتب الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد من أهم الكتب الأكاديمية في دراسات ما بعد الاستعمارية ودراسات الشرق الأوسط. يعتبر كتاب “الاستشراق” من أهم ما كُتب في نقد مفهوم الاستشراق. في الكتاب يقدم لنا إدوارد سعيد تعريفاً للشرق ومدلولاته الجغرافية والحضارية والثقافية، ويُعرف الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية والعلمية والتاريخية والأكاديمية والمادية. ويستعرض في كتابه تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلمية والاستعمارية، مع التركيز على الاستشراق الفرنسي والبريطاني لتاريخهما الاستعماري الطويل، والاستشراق الأميركي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية.

إدوارد سعيد، مؤلف كتاب الاستشراق

إدوارد سعيد كاتب ومفكر فلسطيني أميركي، ولد في مدينة القدس في عام ١٩٣٥، مُنح الجنسية الأميركية من والده الذي خدم في الجيش الأميركي.  في عام ١٩٤٧ درس إدوارد في مدرسة القديس جورج الأنجليكانية في القدس، وبعدها درس في كلية فيكتوريا في مصر ١٩٥١، ودرس في أميركا بكالوريوس في الفنون. وحصل على الدكتوراه في الفلسفة في الأدب الإنكليزي من جامعة هارفرد ١٩٦٤، موضوعها أعمال الكاتب الروائي جوزيف كونراد. استلم بعد ذلك رئاسة قسم اللغة الإنكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا التي تعتبر من أهم الجامعات العريقة في اميركا. كتب إدوارد سعيد كتب عديدة في الموسيقى والسياسة والأدب والنقد الادبي. وعُرف عالمياً بكتابه الاستشراق النقدي الذي كُتب عام ١٩٧٨، والذي ترجم لعدد من اللغات وتم نقده من العديد من الباحثين في دراسات الشرق الأوسط، كما تم تبنيه من عدد كبير من الجامعات حول العالم في دراسات الشرق الأوسط، والدراسات الثقافية والاجتماعية والدراسات النسوية، كأهم كتاب في نقد الاستشراق.

صورة لغلاف كتاب خارج المكان من تأليف إدوارد سعيد، يظهر فيها إدوارد الطفل

على الرغم من كون إدوارد سعيد بروفيسور في الأدب المقارن، إلا أن اهتمامه بالاستشراق بدأ لسببين: أولاً، سبب سياسي حيث تابع سعيد تغطية الإعلام الغربي والخطاب الغربي العام حول حرب عام ١٩٧٣، حيث تم تصوير الجيوش العربية كجيوش خانعة وجبانة وغير قادرة على الدفاع عن بلادها، وقد تفاجئ الغرب بشكل كبير حين تمكن الجنود المصريين من عبور قناة السويس في ذات الحرب. أما السبب الثاني، كان الاختلاف الكبير بين تجربة إدوارد الشخصية لكونه عربياً، وبين كيفية تمثيل العرب في الغرب. في هذه المقالة سأقوم بعرض مختصر لأهم النقاط التي يتناولها سعيد في كتابه الاستشراق. موضوع الكتاب هو الاستشراق وفكرة ادوارد سعيد عن الاستشراق هي استخدام النقد الإنساني بغية فتح مجالات الكفاح، لتقديم أطول للفكر والتحليل، لكي يحل محل الانفعالات القصيرة للهجوم العنيف على الآراء، وفي الجدال العنيف الذي هدفه حالة الاشتراك في حرب الهوية الجماعية أكثر من الفهم والتغيير الفكري، كما يقول سعيد: “إن دورنا هو توسيع حقل البحث، وليس وضع حدود، تتفق مع السلطة القائمة”.  

تابع سعيد تغطية الإعلام الغربي والخطاب الغربي العام حول حرب عام ١٩٧٣، حيث تم تصوير الجيوش العربية كجيوش خانعة وجبانة وغير قادرة على الدفاع عن بلادها

يقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول طويلة يحتوي كل منها على عدة محاور. الفصل الأول يبحث مجال الاستشراق، ويشير إلى مجال الفكر والفعل الذي تشمله كلمة الاستشراق، مستخدما نمطين: التجارب البريطانية والفرنسية للشرق، والإسلام والعرب ومعهم وفي هذه التجارب وجد علاقة حميمة بين المشرق والمغرب، ولقد كانت هذه التجارب جزءاً من علاقة أوروبية غربية بالشرق أكثر شمولاً، بيد أن ما يبدو أنه ترك أكبر أثر على الاستشراق كان حساً بالتصادم ثابتاً إلى حد بعيد لدى الغربيين الذين تعاملوا مع الشرق. إن مفهوم الحدود الفاصلة بين الشرق والغرب والدرجات المختلفة المتصورة للدونية والقوة ومدى التنوع في العمل الذي أنجز وأنماط الملامح المتميزة التي نُسبت الى الشرق، تشهد كلها بوجود تقسيم تخيلي وجغرافي إداري أقيم بين الشرق والغرب، وعاشه الأوربيون لفترة طويلة. ويعرض سعيد محور التعرف على الشرق في الكتاب عن طريق تناول نصوص تاريخية لكتابات وخطابات حدثت في أوروبا وتتناول البلاد العربية في فترات معينة كبعض خطابات وكتابات بلفور وكرومر وكسينجر، وقام بعرضها وتحليلها والإشارة إلى المميزات الاستشراقية فيها وكيفية تأثيرها على الصورة المرسومة عن الشرق. ويتناول في محور الجغرافيا الخيالية وتمثيلاتها (شرقنة الشرق) فكرة صناعة الشرق على حدود خيالية متخلية ومرسومة من الغرب.

أما الفصل الثاني فيقوم بالتركيز على المراحل المبكرة لما يُسميه الاستشراق الحديث، سرد تاريخ ظهور الاستشراق وتطوره ومؤسساته، كما تشكلت منه خلفية من التاريخ الفكري والثقافي والسياسي حتى حوالي ١٨٧٠، ١٨٨٠. حيث شمل اهتمام ادوارد بالشرق عدداً متنوعاً كبيراً من الباحثين والكتاب التخيليين، فهو قدم صورة وجهية للبنى النمطية ولميولها العقائدية التي تشكل هذا الميدان. فإن النقد الذي قدمه سعيد هنا هو أن “ميادين المعرفة والتعلم تماما مثل أعمال حتى أكثر الفنانين شذوذية مميزة، تخضع لضوابط محددة ولفاعلية تأثير عليها نابعة من المجتمع، والتقاليد الثقافية، والظروف الدنيوية، المؤثرات التي تمنح الثياب كالمدارس والمكتبات والحكومات”. وكلا من نمطي الكتابة المتفقة والتخيلي ليس حراً ابداً، بل هو محدد في صوره وافتراضاته ونياته، ثم أخيراً ان التقدم الذي يحققه بعلم كالاستشراق في شكله الجامعي، أقل صحة موضوعياً مما نود أن نظن، كما يقول الكاتب. دراسة سعيد حاولت أن تصف الاقتصاد الذي يجعل الاستشراق موضوعا متناسقا ومنسجما حتى حين نأخذ بعين الاعتبار أن كلمة الشرق من حيث هو فكرة أو مفهوم أو صورة له رنين ثقافي شيق لا يستهان به في الغرب.

أما الفصل الثالث فيعالج الاستشراق الحديث ويتناول مفهوم الاستشراق الكامن والظاهر. كما يشرح بصورة موسعة الاستشراق الآن، وظهور أميركا كقوة فاعلة في موضوع الاستشراق بعد صعودها بعد الحرب العالمية الثانية ولارتباطها الدائم والوثيق بالمنطقة العربية عبر حليفتها دولة إسرائيل.

يُعرف إدوارد سعيد الاستشراق على أنه مجموعة المؤلفات والصور والكتب والمعارف والمفاهيم المرتبطة بالشرق والتي قام الغرب بصياغتها بطرق متعددة، إما عن طريق الرحلات الفردية التي قام بها المستشرقين إلى الشرق أو عن طريق الطرق التجارية التي وصلت الغرب بالشرق، أو عن طريق الحملات العسكرية والاستعمارية في الشرق. عند التفكير بالشرق مثلا، يكون لدينا تصور مسبقا عن الناس، عن ايمانهم أو ثقافتهم، الثقافة الصورة الكلية العامة الشاملة للشرق، حتى من غير ان يكون لدى هؤلاء الأشخاص أي تجربة او معرفة بشخص من الشرق. الطريقة التي يستخدمها الغرب عامة، فرنسا وبريطانيا وأميركا على وجه الخصوص، يُرى فيها الشرق بطريقة محددة عن الشرق التي قد تخدم مصالح هذه الدول.

الاستشراق هو مجموعة المؤلفات والصور والكتب والمعارف والمفاهيم المرتبطة بالشرق والتي قام الغرب بصياغتها بطرق متعددة

 وحسب إدوارد سعيد في مقالة كتبها الكاتب اللبناني فواز طرابلسي فإن الصورة المرسومة عن الشرق من قبل المستشرقين تمتاز بميزات محددة. أولاً النعرة الجوهرية، بمعنى أن تناول الشرق يعتمد على مفهوم كون الشرق والغرب من جوهرين مختلفين تماماً، أحدهما نقيض الآخر، كأن يُصور الشرق كشرق متخلف وبدائي على نقيض الغرب المتطور والحضاري. ثانياً، التعميم، فقد قام المستشرقين برسم صورة واحدة عامة عن كل العرب، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الاختلافات الثقافية والاجتماعية بين بلد وأخرى، ومثال على ذلك هو تصوير الشاعر الفرنسي جيرارد دو نيرفال في كتابه رحلة إلى الشرق، حيث يقوم حسب تعبيره بوصف رحلته إلى سوريا، بينما ما أن ترى التفاصيل المكتوبة كعربي ستعلم أنه يقوم بوصف مصر، وهذه الفكرة قائمة على فكرة التعميم وأنه لا اختلاف بين الشرق بشكل عام. ثالثاً، التنميط، ترتبط فكرة التنميط بشكل جوهري بمفهوم الاستشراق. يعتمد التنميط على صياغة صور نمطية معينة عن شعب من الشعوب، وفي حالتنا هذه على الشرقيين. فيقوم الغرب بنشر الصور النمطية الغير مستندة على أسس علمية واعتبارها حقيقة. مثال على ذلك الصورة النمطية عن كون العربي دائماً ما يرافقه جمل، وهذا نراه في تصوير العرب في الأفلام الأميركية على سبيل المثال. أما رابعا فالجمود، ترتبط فكرة الاستشراق بصورة الشرق الجامد الغير قابل للتطور والتحول من حالة إلى أخرى، على عكس الغرب الديناميكي القابل للتغيير والتطوير. وكذلك يُصور الشرق على أنه الشرق الروحي المرتبط برابط قوي بالدين، على عكس الغرب العلمي والمنطقي إن صح القول. ويقول إدوارد سعيد في كتابه بأن هذه الصورة التي صنعها الغرب عن الشرق، هي محددة ولها هدف محدد في خدمة المستعمرين والمصالح الاستعمارية في المنطقة وليست بريئة كما قد يعتقد البعض. فهي بطريقة معينة تحاول خلق الشرق ليكون مقابلاً للغرب متضاداً معه ومعززاً لفكرة الغرب المتقدم المتطور الحضاري.

إن في كتاب الاستشراق توظيف علمي دقيق لأدوات البحث العلمي والنقد القائم على مراجعة النصوص والتحليل والتدقيق في الظروف التاريخية والثقافية والاقتصادية وسياقاتها والدور الذي لعبته في تشكيل صورة الغرب عن الشرق. إن الكتاب بالإضافة لكونه مرجع علمي وتاريخي هام في دراسات الشرق الأوسط، هو مثال عملي على أهمية النقد والتفكير النقدي والقدرة على إعادة تعريف المفاهيم الموجودة في أي علم من العلوم الإنسانية. 

كتب المقال: ياسمين موفق
طالبة دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوسلو



المراجع:

سعيد، إدوارد. ١٩٧٨. الاستشراق. ترجمة نذير جزماتي. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع.

طرابلسي، فواز.٢٠١٢. الديمقراطية ثورة. مقالة: إدوارد سعيد في تطوره الفكري من شرق/غرب إلى رحاب الإنسانية. رياض الريس للكتب والنشر.

Said, Edward. 2003. Orientalism. London. Penguin Group.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *