يوناتان شابيرا، إسرائيلي يناضل في وجه الفصل العنصري في إسرائيل

958


“حريق يا إخوان حريق

بلادنا حرقت كلها

دخانها الأسود يعلو

ويسودها لهب الخراب

آثارها لم تبق، إنها تحترق

وأنتم مكتوفون الأيدي، دون أن تمدوا يد العون

ولم تحاولوا إطفاء نار البلاد

بهذه الأسطر المترجمة من قصيدة كتبت باللغة اليديشية، بدأ يوناتان شابيرا كلمته أمام أكثر من 3 آلاف شخص وقفوا أمام مبنى البرلمان في العاصمة أوسلو للتضامن مع فلسطين. بعد انتهاء كلمته التي استمرت نحو تسع دقائق، وقف أحد الأطفال أمامه وقال في وجهه: “هناك شيء مختلف في تضامنك، الجميع هنا يقف مع وطنه بينما تقف أنت حباً في العدالة

يوناتان شابيرا، إسرائيلي يناضل في وجه الفصل العنصري في إسرائيل

قدم أجداد يوناتان من شرق أوروبا إلى فلسطين عام 1932. ولد الطفل يوناتان في قاعدة عسكرية للجيش الإسرائيلي عام 1972 قبل عام واحد من مشاركة والده في حرب عام 1973. اشترك بعد ذلك بثلاثين عام في أهم عريضة موقعة ضد قوات الدفاع الإسرائيلية IDF. معلناً مع 26 آخرين انسحابهم وعصيانهم للأوامر الصادرة من قبل القيادة. يقيم يوناتان مع زوجته النرويجية وابنتيه في العاصمة أوسلو، ويعتبر الآن أحد أهم أصوات حركة المقاطعة BDS وأحد الإسرائيليين القلائل الداعمين لهذه الحركة.


الانضمام إلى قوات الدفاع الإسرائيلي:

انضم يوناتان عام 1991 لقوات الدفاع بعمر ال 19 عاماً أثناء تأديته للخدمة الإلزامية. قضى بعد ذلك ثلاثة أعوام بين عامي 1991 و 1994 في التدريب على العمل مع فرق الإنقاذ في الحوامات. بعد انتهاء الكورسات التعليمية، بدأ مع العمل مع فرق الإنقاذ واستمر هناك حتى عام 1999. ليتم استدعاءه مرة أخرى عام 2001 قبل انفصاله وإعلانه العصيان العسكري عام 2003

اغتيال صلاح شحادة: القطعة الأخيرة في حل الأحجية

تزامنت عودة يوناتان لقوات الدفاع عام 2001 مع أحداث الانتفاضة والتي أجرت خلالها قوات الدفاع سلسلة من الاغتيالات لعدد من القيادات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. يقول يوناتان أن سلسلة عمليات الاغتيال تلك هي “الآلية التي جعلته يستيقظ لسياسات قوات الدفاع النتنة” حسب تعبيره.

كان الأوامر تعطى لزملائه العاملين في الطائرات الحربية، واقتصرت في البداية على الاغتيالات للقيادات أثناء تواجدهم في الطرق الفرعية الفارغة نوعاً ما. تطور الأمر بعد ذلك وأصبحت الاغتيالات تجري أثناء تواجد القيادات في الأسواق، وصولاً إلى اغتيال صلاح شحادة في 23 يوليو/تموز عام 2002 مع أسرته وجيرانه أثناء استهداف منزله .
صلاح شحادة كان أحد كوادر حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومؤسس جهازها العسكري الأول الذي عرف باسم “المجاهدون الفلسطينيون”، وقائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري للحركة. استهدفت طائرات الأباتشي المبنى الذي يعيش فيه فيما عرف لاحقاً ب “مجزرة الدرج” حيث قتلت زوجته وابنته و15 شخصاً آخرين من سكان المبنى، 9 منهم كانوا أطفالاً. كما أصيب 150 شخصاً.

يعتبر يوناتان اغتيال صلاح شحادة بمثابة ال “القطعة الأخيرة” في أحجية ماهية قوات الدفاع، ورفض يومها الاستجابة لخطاب القيادات التي أرسلت لجميع المقاتلين بأن عملية اغتيال صلاح شحادة تمت وفق أقصى معايير مراعاة حقوق الإنسان، وأن المقاتلين في طائرة الأباتشي التي قصفت المبنى كانوا أبطالاً وعليهم النوم دون الشعور بالذنب حول الضحايا المدنيين. السبب حسب الرسالة أن “الذنب” هو ذنب شحادة لمحاولته استخدام المدنيين والأطفال كدروع بشرية. الرسالة حول وجوب النوم دون أدنى شعور بالذنب كانت بمثابة منبه الاستيقاظ ليوناتان وغيره في قوات الدفاع.

يعمل يوناتان في العديد من الأمور منذ تركه لقوات الدفاع، أحدها الموسيفى. الصورة من إصدار ألبومه “Numu Numu”



يعتبر يوناتان اغتيال صلاح شحادة بمثابة ال “القطعة الأخيرة” في أحجية ماهية قوات الدفاع


بداية العمل ضد قوات الدفاع والدعاية الإسرائيلية

عند سؤال يوناتان عن وصف لقوات الدفاع في جملة واحدة يجيب: “قوات الدفاع الإسرائيلية هي أكبر منظومة إرهابية في الشرق الأوسط
 بدأ يوناتان العمل منذ “مجرزة الدرج” لكسب أصوات معارضة داخل قوات الدفاع ومحاولة ثنيهم عن القتال ضمن صفوف هذه المنظومة. يقول يوناتان أن الصعوبة تمثلت في تلك المرحلة بأنه ذو رتبة ضعيفة عسكرياً وليس كبقية الضباط:
بسبب كوني مساعد إنقاذ في فريق الحوامات، فلم تكن رتبتي قوية كأولئك الذي يعملون في الطائرات الحربية. رغم ذلك نجحت في إقناع 26 ضابطاً لثنيهم عن الامثتال للأوامر العسكرية
استغرق إقناع الضباط أكثر من عام، ونجح يوناتان بعد ذلك في كتابة ما اشتهر ب “The Pilots Letter” كتب فيها مع 26 آخرين عن رفضهم للسياسات والقرارات الغير إنسانية المتخذة.

“قوات الدفاع الإسرائيلية هي أكبر منظومة إرهابية في الشرق الأوسط”

رسالة العصيان
التي أرسلها الضباط


من صهيوني ساذج إلى مدافع عن حقوق الفلسطينيين

بعد الرسالة التي وجهها رفقة الآخرين، بدأ يوناتان العمل فيما سماه “إصلاح إسرائيل” حيث اعتبر أن قدرته على فهم المعضلة الأخلاقية في اغتيال صلاح شحادة يمكن تحويلها واستغلالها لتصبح حجر الأساس لبناء دولة إسرائيل الديمقراطية. أمر يعتبره يوناتان اليوم سذاجة مطلقة، حيث أن اغتيال صلاح شحادة ساعده لفهم “دولة إسرائيل العنصرية صاحبة السجل الطويل في جرائم الحرب” حسب وصفه.

في قوات الدفاع يتم التشديد على أهمية الديمقراطية والتعبير عن الرأي. كمقاتل أو كشخص يؤدي الخدمة الإلزامية تعجب بهذه الكلمات. ولكن ما اكشتفته أنه بمجرد انتقادك لقتل الأطفال أو سياسات الفصل العنصري، تبدأ محاولات جاهدة لإسكاتك. تعرف عندها فقط أن حرية التعبير عن الرأي في قوات الدفاع هي مجرد إدعاءات” ويتابع:
عندما وقعت العريضة مع الآخرين كنت ما زلت أؤمن بالصهيونية ودولة إسرائيل واعتبرت ما حدث حادثاً فردياً يتعلق بسياسات قوات الدفاع. لكن مع مرور الوقت بدأت رحلة طويلة للتغلب على الغسيل الدماغي الذي كنت قد تعرضت له منذ الولادة، لأصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الدولة هي التمييز العنصري

بدأ يوناتان بعد عام 2003 بتلقي دعوات مختلفة للحديث عن العريضة التي أشرف مع البقية على توقيعها. أحد المدن التي زارها كانت لندن وتمت دعوته هناك للحديث ضمن المنتدى الاجتماعي الأوروبي (European Social Form) عام 2004. يعتبر يوناتان هذه الزيارة بمثابة محطة جديدة في تغيير قناعاته:
كنت أتحدث عن أهمية استجواب قوات الدفاع ومساءلتها. كان الحضور كبيرأ، أربع أو خمس آلاف شخص ربما. كان الحضور يصفقون بحرارة لسماعهم لأول مرة شيء من هذا القبيل ربما. وقفت بعد ذلك امرأة وسط الحشود، وقالت لي: أنا من مخيم شاتيلا في لبنان، وفي عام 1982 مشيت إلى جانب جثث أهلي وجيراني بعد المجرزة. أريد أن أعرف رسالتك للاجئين الفلسطينيين؟

يتابع يوناتان: “لم أفكر أبداً باللاجئين الفلسطينيين قبل ذلك، وأجبتها أنه من الواضح أن عليّ تعلم الكثير من الأمور. بدأت بعد ذلك رحلة جديدة في التعلم والقراءة حول النكبة وحول ما حدث عام 1948. فهمت عندها حق العودة والظلم الذي تعرض له اللاجئين الفلسطينيين بسببنا. سأكون دائماً ممتن لتلك الامرأة وسؤالها الذي ساعدني ليس فقط لفهم المزيد، بل أيضاً لبدء العمل والنشاط ضمن حركات تضمن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.”

أسس يوناتان مع آخرين حركة (مقاطعة من الداخل-Boycott from within) وهي حركة تتألف من نشطاء يحملون الجنسية الإسرائيلية وينشطون من أجل الحرية والعدالة لفلسطين. توجه الناشطون في الحركة بباخرة عام 2008 إلى غزة بعد المجازر التي حدثت في القطاع ذلك العام. ثم توجهوا مرة أخرى عام 2010 بعد 3 أشهر من وقوع مجزرة أسطول الحرية “مرمرة” والتي قامت بها القوات الإسرائيلية وأطلقت عليها اسم عملية نسيم البحر أو عملية رياح السماء، استهدفت من خلالها نشطاء سلام على متن قوارب تابعة لأسطول الحرية. حيث اقتحمت قوات خاصة تابعة للبحرية الإسرائيلية  كبرى سفن القافلة “مافي مرمرة” التي حملت 581 متضامنًا من حركة غزة الحرة داخل المياه الدولية.  وقعت أحداث المجزرة فجر يوم 31 مايو، 2010 في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط. تمت باستخدام الرصاص الحي والغاز.

كان يوناتان بعد ذلك على متن البواخر الإنسانية لتي توجهت نحو القطاع أعوام 2011، 2012 وأخيراً مع باخرة النشطاء النرويجيين عام 2018.

الباخرة النرويجية التي توجهت لغزة عام 2018. (screen capture: Press TV/Twitter)

كان يوناتان بعد ذلك على متن البواخر الإنسانية لتي توجهت نحو القطاع أعوام 2011، 2012 وأخيراً مع باخرة النشطاء النرويجيين عام 2018


استجابة قوات الدفاع

كان من الصعب جداً على الحركة فهم مقاطعة ضباط للمنظومة وعصيانهم الأوامر العسكرية. خصوصاً وأن تمتع يوناتان مع الآخرين بالامتيازات كيهوديين في الدولة شجعتهم على القيام بالمزيد وعدم التوقف. لم يكن ممكناً معاقبتهم عسكرياً، حيث يرى يوناتان أن القيام بذلك كان سيحولهم بنظر الكثيرين إلى أبطال وهو أمر لا تريده قوات الدفاع. عل العكس بدأت حملات تحريضية توجهت ضد الموقعين ال 27 تصفهم بالمتعبين نفسياً ومرتادي مراكز العلاج الصحي النفسي. يرى يوناتان أن قوات الدفاع بذلك حمت نفسها وحمت كذلك “جبال الجليد” التي تضعها بين المقاتلين في صفوف قوات الدفاع من جهة وبين الحقائق من جهة أخرى:
يعاني المقاتلين في قوات الدفاع من موجات عديدة ومستمرة من الغسيل الدماغي. هو أمر يبدأ مبكرأ لكل الأطفال منذ وجودهم في المدارس وحتى الدرجات العليا. من النادر أن تجد مدرساً في الجامعة يتحدث عن حقوق الفلسطينيين، لأن أغلب من قاموا بذلك تم استبعادهم وتهميشهم. بالتأكيد هناك الكثير في قوات الدفاع غير راضيين عن الأمر وعن الجرائم التي تحدث، ولكن أعتقد أن البعض يفكر في أن الخدمة الإلزامية مؤقتة لذلك لا يلزم التفكير مطولاً بالإشكاليات الإنسانية. للأسف يتم استغلال ذلك بشكل كبير من قبل القيادات في قوات الدفاع. كما أن سياسات شيطنة العدو التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية تجعل من الصعب على الضباط التفكير بشكل منطقي، رغم أن كمية الجرائم التي تحصل الآن أكبر بأضعاف المرات. آلية مشابهة لما كتبت عنه هانى أريندت Hannah Arendt في كتابها تفاهة الشر A Report on the Banality of Evil  الذي حاولت فيه البحث عن الآليات وطرق التفكير التي مر بها الجنود النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية. استطاعت هانى في كتابها انشاء مصطلح جديد the Banality of Evil  والذي يتمحور حول طريقة تفكير بعض الجنود بأنهم يؤدون مهمة محددة وليست ذات أبعاد خطيرة، وأن مهمة القادة تكون في تجميع المهام الصغيرة لإنشاء مجزرة مكتملة الأركان

يشرح يوناتان كيف أن تطبيق الجرائم الآن عملية أسهل نتيجة التطور التكنولوجي الحاصل. لم يعد هناك حاجة لطائرات الأباتشي، بل أن الجريمة يمكن أن تتم عبر ضغط زر واحد من غرفة العمليات في تل أبيب.

النرويج والانتفاضة الفلسطينية 2021

يوناتان شابيرا من أمام مبنى البرلمان النرويجي

يعبر يوناتان عن استيائه من تعامل الميديا مع الأحداث الأخيرة، ولكن الأمر لا يبدو مستغرباً حسب تعبيره:
الجميع يخاف انتقاد الأشياء وتسميتها بمسمياتها بسبب الخوف من تهمة معاداة السامية. أنا تم اتهامي بمعاداة السامية رغم أنني يهودي و فقدت أفراد من أسرتي بسبب الهولوكوست حيث تم قتل جدتي في المحرقة النازية.”

106 شركات تقوم بتصنيع الأسلحة في هذا البلد الصغير. لو قمنا بتقسيم هذا العدد على تعداد السكان لوجدنا ربما أن النرويج هي أكبر مصدر للأسلحة في العالم


يعمل يوناتان الآن ضمن حملات لإيقاف بيع الأسلحة من النرويج إلى الجيش الإسرائيلي. الحملات تهدف لرفع الوعي الشعبي تجاه سياسات الحكومة وأرباحها من بيع الأسلحة
هناك 106 شركات تقوم بتصنيع الأسلحة في هذا البلد الصغير. لو قمنا بتقسيم هذا العدد على تعداد السكان لوجدنا ربما أن النرويج هي أكبر مصدر للأسلحة في العالم. يتم البيع عبر شركات في الولايات المتحدة في محاولة للتغطية على جرائم الحرب التي ترتكبها الدول التي تشتري هذه الأسلحة
ويختتم يوناتان حديثه بتعليق الأمر على الديمقراطية كمنفذ وحيد لمواجهة قوة السلاح وتجارته:
علينا العمل جميعاً لرفع الوعي الشعبي تجاه قضايا السلاح، لا يمكن أن تكون رفاهيتنا مبنية وقائمة على بيع الأسلحة التي يتم قتل الشعوب بها. تتم إدارة هذه البلاد بالديمقراطية وتستجيب الحكومات للضغط عندما تتم ممارسته بشكل منظم. لذلك علينا الوقوف أمام مصانع الأسلحة وإيصال رسالتنا للحكومة. يجب إيقاف بيع الأسلحة وإلا لا يمكن للشعب الفلسطيني وأطفال فلسطين العيش بسلام.”

Osama Shaheen
WRITEN BY

Osama Shaheen

أسامة شاهين: محرر في دار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *