ثنائية الأمل الحزين

1353

الجزء الأول

لم تكن الصيحات العالية المتكررة والتي أخذت تنادي على اسمٍ بعينه ما أخاف أمل، بل ولم تكن العبرات و الدموع التي أخذت تتكاثر و تتجمع في الأحداق، فتنهمر جمعاً ما أفزعها أيضاً. بل كان صوتها الضائع الذي لم تجده. كانت ساكنةً سكوناً يبعث على الخوف. ذاك السكون الذي يتكلم بلا صوت. فيشرح ويفيض بلا كلمات. ويعبر وينقل ويستفيض بلا عباراتٍ أو جمل. كانت كما لو أنَّ تياراً كهربائياً عبر من خلالها، وهي غافلة تمام الغفلة عمَّا يجري. أو كان ذلك ما يبدو لمن شاهدها تجلس القرفصاء تتبع بعينيها الجموع تهرول وتركض كما لو أن القيامة حانت، وكان الوعد الحق.

” أأنتِ على ما يرام؟ هل أصبتِ أثناء الرسو؟ هل ابتلعت بعضاً من ماء البحر؟”

كان ذلك صوتٌ يخرج بلهجة عربية ثقيلة من إحدى المتطوعات للإنقاذ. كانت جميلة القوام، نحاسية الشعر ذات حضورٍ أليف مريح، إلا أن الإرهاق الذي بدا عليها كان جلياً واضحاً من أثر النزول إلى الماء والتقاط من أرسلت بهم الأمواج إلى الشاطئ مفارقي الحياة، أو ما شابه ذلك.

رسم مارك نيلسون

ــ انهضِ معي يا أمل.

صرخ أبو أحمد وهو يمسح الدموع محاولاً عدم بلع ريقه ما أمكن لكيلا يرتشف ما بقي من أثر الماء المالح على شفاهه.

لم تجاوب أمل. فقط اكتفت بالتحديق رفضاً أو لعدم قدرتها على الإجابة. فقد كان ما شهدته وسمعته كفيلاً بجعلها عاجزةً حتى عن التفكير. فلن تغادر تلك المشاهد مخيلتها ما بقيت على هذه الحياة. فهل هي باقية حقاً؟ أم أن جسدها كان قد تمكن من النجاة بلا روحها وحواسها و قدرتها على الإدراك؟ ذلك سؤالٌ يصعب الإجابة عليه!

ــ انهضِ! انهضِ أقول لكِ! ربما وجدنا والدتكِ أو أخاكِ مع القادمين! فلا تقنطوا من رحمة الله! لا تقنطوا من رحمة الله! لا تقنطوا من رحمة الله!

كان تكرار والدها لتلك الآية خير دليل على عجزه واقترابه من الانهيار أمام هذا المصاب. فكان صوته يمتزج على مسامع أمل مع صوت الموج وقد وجد ضالته ووصل إلى الشاطئ، ليضرب فيه بكل قوته ناشراً فيه الزبد الأبيض اللزج. فينهي بذلك دورة حياته. إلا أنَّ أمواج هذه الليلة أبت أن تنهي دورة حياتها إلا بقلب القارب المطاطي الأسود المحمل بشراً فوق طاقته. فينتثر البشر متباعدين ليختفوا وتختفي أصواتهم في تلك الليلة.

لم تكن بداية رحلة أمل باليسرة عليها أو على عائلتها. بل كانت تتسم بالإرهاق والتأخير. فموت أحمد خلَّف في العائلة أثر فجيعةٍ كبيرة سترافقهم في كل أيامهم في المخيم. فلا طعام ولا شراب ولا نوم ولا سبب للبكاء إلا وكان ذكر أحمد حاضراً في بداية القصِّ وآخره. شأنه شأن دموع والدته التي كانت تسارع إلى تعداد محاسن ذلك الفتى الشجاع ذو الملامح البارزة الوسيمة.

 ولم ينتهِ الأمر إلى هذا، بل غياب أحمد، غيًّر من توازن الأسرة وتركيبتها وطريقة حياتها. فالمخيم لم يعد آمناً لأبو أحمد ليلعب فيه ابنه الصغير عمر. والمخيم لم يعد مكاناً يصلح للعيش. حتى العيش البسيط المغلف بصفة القناعة والحمد على كل حال بالنسبة لأم أحمد. والمخيم أصبح مصدر الذكرى الأليمة المتكررة لأمل، وقد سلبها أخاها الصغير. فكما لو أنًّ موت أحمد نبَّه العائلة إلى مساوئ المخيم، وأكثر من سلبياته، وزاد من صورته القرينة السوداء في أعين العائلة جميعاً. وربَّ ليلٍ لا يُرى كلُّ سواده إلا بغياب القمر.

ــ فما الحل؟

هتفت أم أحمد وهي تلقي بغطاءٍ إضافي على أبنائها الثلاث المتبقين.

ــ لم يعد أمامنا إلا السفر، نفعل كما فعل غيرنا والتوكل على الله!

أجاب أبو أحمد وهو يسرح بنظره على أولاده محاولاً أن يخطأ بعدهم ليصل إلى رقم ثلاثة بدل اثنين، علَّ أحمد يعود! لكن الواقع لم يتجاوب مع أمانيه!

وذاك ما كان من أمر العائلة. فأمر أبو أحمد العائلة بالتجهز للرحلة الطويلة التي لا يدري شيئاً عن محطاتها . فقد تعذر عليه أن يحفظ أسماء البلدان التي يتوجب عليه قطعها في مسيره مع عائلته. كيف يحفظها وهو لم يغادر محيط قريته طيلة حياته. فما من حاجة كانت تدَّعي الرحيل. أمَّا الآن فذكرى ولده أحمد وخشيته على المتبقين تلحُّ عليه بالذهاب بلا رجعة.

لم يكن أبو أحمد باليسير مادياً. فقد خلَّف ورائه ما جمعه طيلة حياته إما مدمراً أو مسلوباً. والنزوح والمخيم لا يسمح إلا بسدِّ الرمق، وإن اُستصعب ذلك أحياناً. فكثيرة تلك الليالي من آخر كل شهر وقد فرغ البيت مما هو حصة العائلة من بعض الكيلوغرامات من العدس والرز و “المعكرونة“. فمن أين له تكاليف الرحلة الشاقة والتي تصل لعدة ألوفٍ من الدولارات؟

 وما كان من اليأس أن يصل إلى نفس أبو أحمد في محاولاته للاستدانة. فما من يأسٍ جديد يثقل عليه حركته ويمنعه من المحاولة. فأيُّ قنوطٍ وفشل إضافيين لمن هوت به الحياة وسلبته حتى ولده! واليأس كان ما يحمل أبو أحمد أحياناً لأن يتحامل على نفسه سائلاً راجياً لمدينٍ أرعن يخاطبه تعالياً اختيالاً. كما لو أنه قَنِع باستمرار صلاح الحال ووفرة النعم. وذاك لعمري من الخُيلاء والغرور والكبائر.

 هذا مما كان يزيد من رغبة أبو أحمد بالرحيل. فكما لو أن الحجر والبشر اجتمعا على دفعه للهجرة وما في النفس إلا الكره و الانقباض.

أمَّا أم أحمد فكان واجبها التحضير النفسي لأبنائها، منبهة إيّاهم على الكتمان والسكوت عن ذكر الأمر. فعين الحاسد قد تخترق الجدار كما يُقال. لكن أيُّ عين حاسدٍ ستصلهم على ما هم فيه من فقر الحال وسوء الطالع!؟

 ولا تكمل أم أحمد يومها إلا أن تمرَّ على قبر ولدها في كل يومٍ، فتقصُّ على أحمد ما يمر على سمعها من كلام زوجها عن أهوال الطريق ومغانم السفر. ثم تعود لتقول إن ما من مغانم بلا مغارم وهي تربت على الحجر الجاثم تحته ولدها. فتأنٌّ وتبكي وتشكو وتضرب على صدرها و هي تستذكر ما كانت ستحمله معها من ثيابه و ألعابه التي يحبها. فتراه في مخيلتها يقلب بينهم، فتعود وتنبهه أن لن يكون في وسعهم أن يزيدوا في حملهم ” فالطريق شاقة، ولا مغانم بلا مغارم!”

استطاع أبو أحمد أن يجمع ما قدَّره كافٍ ليصل بهم إلى “برِّ الأمان”. ثم قرر الأبوان أن الرحلة ستبدأ بعبور الحدود السورية التركية إلى أنطاكيا التركية وتحديداً مدينة الريحانية المليئة بالسوريين القادمين حديثاً، أو ممن يحملون أصلاً سورياً أو “شامياً” كما اعتاد أن يُطلق على سكان إقليم بلاد الشام في زمانٍ ليس ببعيد. لم يكون العبور عبر الحدود بالعسير على أبناء المنطقة، خاصة في ذاك التاريخ من عام 2015. فكانت الحدود الغير رسمية من معابر برية غير معبدة وأنهر ضعيفة الجريان شكلت حدوداً طبيعية بين البلدين، غير مشددة المراقبة. فيتساهل حرس الحدود أو “الجندرما” كما يُطلق عليهم باللغة التركية يغضون النظر عن الفارين و الهاربين لاعتبارات سياسية و إنسانية.

وصلت عائلة أبو أحمد إلى أول طريقٍ عامٍ رئيسي معبد بعد ما يقارب الساعة ونصف من المشي. فعبروا جبالاً وهبطوا وديان ومرّوا بكل ما تحمله تلك المنطقة من جمال طبيعي تمتاز به. فالتقوا بسيارة “فان” تقف في انتظارهم على الجهة الأخرى من الحدود لتقلَّهم إلى مركز المدينة. فمن كان يملك أقارباً له في المدينة، بات عندهم. ومن لم يملك، استكرى غرفة فندقٍ له ولعائلته. أما البعض، فمدَّ في أرض الحديقة والتحف العشب غطاءً يقضي ليلته يقتصد في دفع بعض الدولارات ربما أحتاجها في وقتٍ لاحق.

رسم مارك نيلسون

باتت العائلة المرتحلة عند أقارب لهم في تلك الليلة، وإن كان الضيق شريكهم في المنام. فالبيت لم يكن يكاد يتسع لأهله. لكنها ليلة لن يصيب فيها أحد من عائلة أبو أحمد قدراً من النوم رغم الإرهاق الشديد وألم المفاصل وباطن القدمين. فكلٌّ يفكر بما خلًّف ورائه، وكلٌّ يجتمع بتفكيره عند احمد.





المؤلف: محمود شعار

قصة قصيرة – بيانو الخيمة 132571709 392159688551593 4089210167845112019 n 995x1024

سوري الجنسية مقيم في مدينة أوسلو. طالب هندسة مدنية في سنته الأخيرة بجامعة أوسلو OsloMet .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

One thought on “ثنائية الأمل الحزين

  1. I’m so proud of you 🌻