دمج واندماج وإدماج

2524

ثقافة الدمج، والاندماج الثقافي

الإبداع الثقافي والفني حالة متفردة، تختلف عن مجمل نتاجات الحضارة البشرية الأخرى. لا يخضع المنتج الثقافي/الإبداعي لقيود المكان أو سطوة التاريخ. يبقى نضراً يحدث تأثيره الخاص، ويوصل الرسالة التي يريد صاحبه إيصالها. يترجم أوجاع وأفراح البشر أينما وجدوا، ويحاكي أحلامهم أفكارهم وهمومهم.  

مقدمة طويلة لا بد منها:

يجتاز المنجز الثقافي والإبداعي حراً طليقاً بين حدود البلدان، وربما القارات، دون قيود أو شروط. يعبر الحدود ويحقق تواصلاً إنسانياً بين مختلف الأعراف والثقافات حول العالم كله. يتحول إلى جسر بين البشر جميعاً على اختلاف انتماءاتهم، وأفكارهم، ومعتقداتهم، وسياساتهم. تشير معظم الدراسات الأثرية أن البداية كانت قبل حوالي 40 ألف عام مع أولى رسوم إنسان العصر الحجري. هذه الرسوم والآثار مختلفة، التي ملئت جدران الكهوف في أوروبا، تحولت لاحقاً إلى سجل يوميات وأحداث مختلفة. اليوم يستطيع جميع سكان الأرض على اختلاف لغاتهم وخلفياتهم الثقافية، فهم ما كان يفكر به الإنسان الأول، دون الحاجة إلى شرح أو تفصيل. نفهم مجريات يوم الإنسان البدائي، ونعيشها معه، مثل خوفه من الظواهر الطبيعية، ورحلات صيد الحيوانات، وولائم الطعام، وطقوس الأفراح وعبادات الوثنية وغيرها. اليوم يزور ملايين البشر متاحف العالم المختلفة. يقفون أمام ملايين اللوحات والتماثيل وأعمال فنية، التي تعود إلى مراحل مختلفة من تطور الحضارة والثقافة الإنسانية. لا تحتاج مجمل هذا الأعمال إلى شروحات أو تفسيرات لإيصال وفهم ما أراد مبدعوها قوله، أو التعبير عنه.  هذا ما نجده بشكل واضح (على سبيل المثال لا الحصر) في نتاج عصر النهضة الفني في أوروبا الذي جاء في القرن الخامس عشر. وقتها استعاد الإنسان مكانته وحريته التي سيطرت عليها الكنيسة وسلطتها الدينية. لم يكن لنا أن نعرف شيئاً عن تلك النهضة لولا رسومات وتماثيل ليوناردو دافنشي، مايكل أنجلو، رافاييل وغيرهم الكثير. سجلت رسومات هؤلاء الفنانين أهم الأحداث والتفاصيل الحياة اليومية. وخلدت أسماء شخصيات كثيرة بأعمال فنية ورسومات شخصية، كان لها بصمتها المميزة في تطور الحضارة باعتبار أن التصوير الضوئي لم يكن قد اكتشف بعد بطبيعة الحال. لم تختلف ذهنية التفكير والتعبير كثيراً في إنجاز مجمل هذه الأعمال، عن تلك التي أنجزها إنسان الكهف الأول، سوى بالأدوات وزيادة الوعي والإدراك والأسلوب والتقنية. يضحك مجمل سكان الأرض عندما يشاهدون أفلام تشارلي شابلين الكوميدية الصامتة. الابتسامة والضحك هذه، يرافقها رسائل إنسانية وفكرية كبيرة وعميقة، أحدثت أثراً كبيراً لدى عرضها قبل 80 عاماً، ما يزال حاضراً إلى يومنا هذا، كما هو الحال مع أفلام (الديكتاتور) و(الأزمنة الحديثة). في روايته (الحرب والسلم) يأخذنا الروائي الروسي ليو تولستوي في رحلة لعوالم روسيا مع بداية القرن التاسع عشر. نتعرف فيها على الثقافة وأسلوب حياة الروسية. يجد القارئ لهذه الرواية سهولة في التواصل مع الإنسان الروسي أينما التقاه لمعرفه بمرجعية تفكيريه وثقافته اليومية التي صورها تولستوي. أمثلة كثيرة لا حصر لها، رغبت في ذكرها هنا، ليس بداعي الاستعراض الثقافي المجاني، إنما كأمثلة تساعد في شرح وتوضيح ما أريد عرضه في سياق المقال لاحقاً، حول مقدرة الثقافة والابداع الفني في خلق جسراً حقيقياً في عملية الاندماج الثقافي والتواصل الإنساني.

-اندماج بنكهة ال pølsa و samfunnskunnskap:  

يلعب الحظ في حصول اللاجئ في النرويج على قبول إحدى البلديات لملفه واستقباله للخضوع إلى البرنامج التمهيدي introduksjonsprogram. قد يستغرق هذه القبول وقتاً طويلاً يقضيها في موتاكات الانتظار الدائمة. يبدأ بعدها اللاجئ سعيد الحظ، في بداية مرحلة جديدة من حياته، عنوانها العريض هو: (كيف تصبح مواطناً نرويجياً لطيفاً ومندمجاً في أقصر وقت ممكن). في دروس اللغة النرويجية يتسابق اللاجئون في حفظ معاني الكلمات، وكيفية لفظها وكتابتها. يواجه الغالبية منهم صعوبة في مط الشفاه وتدويرها للفظ الحروف الصوتية الثلاثة Å ,Ø,Æ  بشكلها الصحيح. يتذكر معظمنا الفرق الكبير بين لفظتي DU  و DO ونؤكد على الفارق اللفظي بينهما، حتى لا نواجه موقفاً مخجلاً، يخرجنا من ثوبنا الاندماجي الجميل الذي نحاول ارتدائه بسرعة.

اندماج
تصميم: عماد الوهيبي

ضمن خطة البرنامج التمهيدي الإجبارية، يدرس اللاجئ خمسون ساعة في مادة samfunnskunnskap. وهي جملة من المعلومات العامة عن المجتمع والتاريخ والثقافة النرويجية. خمسون ساعة دراسة إجبارية فقط لا غير، يعتبرها القائمون على برنامج التمهيدي كافية لتأهيل اللاجئين لفهم ثقافة وتاريخ وحضارة النرويج بلدهم الجديد! مجمل ما تدرسه فيها هي معلومات عن الاقتصاد، وأرقام عن حياة العملية، وفرص العمل وطبيعته ومجالاته.  يمكنك أن تقرأ بشكل خجول جداً، عن بعض أسماء المبدعين والفنانين والأدباء النرويجيين، أو عن الحياة الثقافية والإبداعية في الحياة النرويجية المعاصرة. يتضمن البرنامج التمهيدي أيضاً جملةً من الأنشطة والرحلات بهدف التعرف على الطبيعة النرويجية. يجتمع فيها المشاركون في برنامج الاندماج مع المسؤولين عنهم حول النار المشتعلة في المنتزهات، لشواء وتناول pølsa، وتبادل الأحاديث والخبرات اللغوية والإنسانية الاندماجية.
أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي سألتني به المشرفة على برنامج الأنترو (هل فعلاً يوجد سينما ومسرح في سوريا؟) بعد أن أخبرتها عن خلفية دراستي للدراما والمسرح في دمشق. حاولت جاهداً إخفاء دهشتي، أو بالأصح صدمتي الكبرى، وتحايلت على الموقف شارحاً ومفصلاً لها واقع المسرح والثقافة والفن في سوريا، وأخبرتها عن الترجمات العربية المختلفة لمسرحيات هنريك أبسين، ولروايات كنوت هامسون. تكرر لاحقاً الموقف ذاته، ليكشف حقيقة قاسية عن واقع التواصل الثقافي الذي ينتظره اللاجئين بعد انتهائهم من مشروع دمجهم، وتناولهم لكميات كبيرة من pølsa، وخروجهم في رحلات السير والصعود إلى الجبال التي يعشقها النرويجيون! يبدو أن الهدف الأساسي لفكرة ومشروع الاندماج في النرويج، هو تعلم اللغة النرويجية بالسرعة القصوى ـ وإعداد المشاركين في البرنامج التمهيدي وتجهيزهم للدخول في سوق العمل، كهدف أساسي، أو اتجاههم للتحصيل العملي العالي للمزاحمة لاحقاً في سوق العمل. العمل هو مقياس النجاح أو الفشل في المجتمع النرويجي. الحصول على العمل هو المعيار الحقيقي لإعلان نجاح اللاجئ في مشروع الاندماج، حتى إن كان زملائه في العمل لا يعرفون الموقع الجغرافي للبلاد المنكوبة التي هرب منها، ليصل إلى عتبات القطب الشمالي بصفة لاجئ! أما التواصل الثقافي والمعرفي ليس له موقع أو نصيب يذكر في بنية الاندماج النروجي المنشود إلا فيما ندر، أو عن طريق مبادرات فردية خجولة.  

أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي سألتني به المشرفة على برنامج الأنترو (هل فعلاً يوجد سينما ومسرح في سوريا؟) بعد أن أخبرتها عن خلفية دراستي للدراما والمسرح في دمشق. حاولت جاهداً إخفاء دهشتي، أو بالأصح صدمتي الكبرى

-اندماج بنكهة أفلام بيلا تار والنبيذ الفرنسي:

يتعاطف معظم النرويجيون معنا نحن اللاجئين. يبتسمون لنا في الاجتماعات والطرقات، ويبدي الكثير منهم تأثراً واضحاً، يصل حد البكاء أحياناً، عندما يستمعون لحكاياتنا عن الحرب والقتل ومخاطر طرق اللجوء، وفترات انتظارنا الطويلة وصعوباتها في الموتاكات. يراعون صعوبة فهم أغلبنا لهجات اللغة النرويجية الصعبة والمختلفة.  لكن الوصول إلى علاقة صداقة حقيقية معهم، قد تتطلب وقتاً طويلاً جداً في كثير من الأحيان. إنها طبيعة المجتمع النرويجي، التي يجب احترامها، وإيجاد طرق مختلفة للتغلب عليها. ربما تحصل معجزة اندماجية تزيل جميع العوائق وتفتح أبواباً للتواصل الإنساني الحقيقي.  في رحلة بحثي عن فرصة عمل، وصلت إلى مكتب مديرة مكتبة مدينة تروندهايم المركزية. وكما هو معتاد، سلمتها الـ CV  والسوكناد، وطالت فترة انتظار حصولي على الرد. بعد حوالي شهر اتصل بي مدير مكتبة ضاحية søbstad التابعة لمكتبة تروندهايم المركزية قائلا: (توقفت عن قبول متدربين جدد لكثرة ما تسببوا به من أخطاء في العمل، لكنك أثرت فضولي فيما كتبته في cv خاصتك. يمكنك الحضور مع مسؤولك في NAV  في أقرب وقت) وهذا ما حصل فعلا. بعد الموافقة على ملفي، وتوقيع الأوراق اللازمة لفترة تدريب امتدت لثلاثة أشهر. سألني مدير المكتبة قائلا: (هل يمكنك تذكر سياق الأبجدية النروجية دون أخطاء؟) مبرراً سؤاله اعتماد نظام عمل المكتبة بشكل أساسي على تسلسل الأبجدي. في تلك اللحظة نسيت الأبجدية النرويجية والعربية أيضاً نتيجة انفعالي. وتداركت الموقف بابتسامة باردة. في الأسبوع الثاني من فترة التدريب، وبعد انتهائي من مهمة إرجاع الكتب إلى الرفوف حسب التسلسل الأبجدي الصحيح، دعاني المدير لتناول القهوة في مكتبه، وهنا حصلت معجزة اندماجية حقيقية. سألني إن كنت مهتماً بالسينما والأفلام الحائزة على جوائز المسابقات العالمية وعن أسماء المخرجين والممثلين المفضلين لدي. لم يصدق كلينا كيف أخذنا الحوار بعدها إلى عوالم الفن التشكيلي والأدب والموسيقا والمسرح. شعرنا وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل جداً. كانت وجهات نظرنا متقاربة جداً. استقر الحوار بنا حول المخرج المجري (بيلا تار) وفيلمه (تانغو الشيطان) وأسلوبه التأملي الإشكالي الغرائبي والمتفرد الممتد لسبعة ساعات كاملة أنجزت بالأبيض والأسود. الحماس الحاضر في الحوار، والتقارب الفكري والإنساني والثقافي، شجع مدير المكتبة لدعوتي إلى منزله في عطلة نهاية الأسبوع، ومتابعة حوارنا ولمشاهدة واحد من أفلامه المفضلة لديه، وهو فيلم (Werckmeister Harmonies) لصديقنا بيلا تار نفسه. لا أعرف كيف أشكر هذا المخرج المجري حقاً. بفضله حصلت على صديق نرويجي بزمن قياسي نادر الحدوث. بعد أقل من أسبوع كنت في بيت مديري في العمل! هذا لا يحصل حتى للنرويجيين أنفسهم، أن يدعوهم مديرهم بعد أقل من أسبوع فقط منذ بدايتهم في العمل! عشاء نرويجي، نبيذ فرنسي، فيلم مجري مترجم للإنكليزية، وحوار استخدمت فيه كل إمكاناتي اللغوية النرويجية والإنكليزية وحتى لغة الإشارة في بعض اللحظات، لكن صديقي الجديد كان يفهمني تماماً بفضل عالم الثقافة السحري. أليس هكذا يكون الاندماج الحقيقي؟

-(دار) فسحة للاندماج الثقافي الحقيقي:

في افتتاحية العدد الأول لـ(دار) كتب أسامة شاهين:(تتحدث الصحف عنا، ولكنها لا تتحدث معنا). لخص مؤسس وصاحب فكرة المجلة حديثة العهد، تاريخ طويل من الأسلوب الملتبس الذي يتعامل به الإعلام النرويجي بكافة أشكاله مع موضوعة اللاجئ/ الاندماج. تهتم الصحف النرويجية بقصص نجاح اللاجئين في حياة العمل والإنتاج. مقابلات بالجملة تعرض حكايات التفوق الدراسي للطلاب اللاجئين، ودخولهم سريعاً في الحياة العملية من أبوابها العالية. تقارير صحفية عن فرق موسيقية، وتجارب مسرحية، أو الأعمال فنية والتشكيلية، التي يقدمها اللاجئين، توضح للمجتمع النرويجي كم هم هؤلاء اللاجئين طموحين وودودين ومحبين للحياة والسلام والفرح! لكن لا وجود للحوار الثقافي الحقيقي المبني على رغبة حقيقية في التعمق وفهم روح ثقافتنا. أنهم يتحدثون عن ثقافتنا، ولا يرغبون في فهم روحها ومرجعيتها وقدرتها على خلق جسور للتواصل الإنساني الحقيقية! باستثناء بعض التجارب الفردية التي لا تشكل حركة حقيقية يعول عليها مستقبلاً. لمفهوم الاندماج الإنساني الحقيقي، عوامل وأساسيات كثيرة مختلفة، ربما تكون أهمها مفهوم الثقافة والفن والابداع الإنساني، على أن يكون جسراً باتجاهين وبالأهمية نفسها. الاتجاه الأول يقود الإنسان اللاجئ نحو فهم تقاليد وثقافة وروح المجتمع الجديد الذي اختاره، أو قادته ظروف كثيرة للعيش فيه، هنا ستجد الكثير من الجهات الحكومية والمنظمات الإنسانية والتطوعية التي تدعم هذا الاتجاه. أما الاتجاه الثاني وهو الأكثر حساسية وتعقيداً، يحاول من يؤمن بجدواه وفعاليته في دعم مشروع الاندماج الإنساني الحقيقي، إيجاد وسائل تواصل مع مفاهيم ثقافة الإنسان النرويجي، وترغيبه للاطلاع على الثقافات الكثيرة المختلفة التي يحملها اللاجئون، شركائه في المجتمع والحياة. هذا ما ستبدأه مجلتكم (دار) في العمل به ومن أجله، حيث سيكون ركنها الثقافي منذ انطلاقه، ورشة عمل وتبادل خبرات، أساسها مساهمات ومشاركات قراءها الأعزاء، في مجالات الكتابة كافة، الصحفية والأدبية والثقافية. على أن تكون هذه الخطوة الأولى في انطلاقة مشروع إنساني وثقافي كبير، في حال توفرت له الظروف المناسبة، يؤمن الدعم ويوفر الفرص في مجلات الموسيقا، المسرح، السينما، ومراكز ثقافية. (دار الثقافية) حجر الأساس في بناء جسرنا الثقافي المخالف للسائد، بهدف تواصل إنساني أكثر شفافية ومصداقية. بانتظار مساهماتكم و (الدار داركم).


كتب المقال:
يوحنا زرزر: صحفي فلسطيني سوري يقيم في النرويج. من أسرة دار يكتب في شؤون الثقافة والاندماج.




شرح المفردات:
الموتاك: مركز استقبال اللاجئين في النرويج, بعضها مؤقت وبعضها دائم يقيم فيه اللاجئ لعدة أشهر أو سنوات قبل الحصول على الإقامة.
Pølsa: سندويشات النقانق.
Å ,Ø,Æ: ثلاثة أحرف إضافية تعتبر بمثابة الهوية اللفطية للغة النرويجية.
السوكناد: رسالة ترفق مع ال CV أثناء البحث عن العمل. تدخل كلمة سوكناد حياة اللاجئ منذ اليوم الأول وتصبح ظاهرة يومية في حياته في كل معاملاته اليوميّة.

(دار الثقافية) حجر الأساس في بناء جسرنا الثقافي المخالف للسائد، بهدف تواصل إنساني أكثر شفافية ومصداقية. بانتظار مساهماتكم و (الدار داركم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 thoughts on “دمج واندماج وإدماج

  1. God bless you

  2. كلام جميل
    لكن في. النهاية نحكم بين بلداننا العربية وهذه الدولة التي استقبلتنا

  3. شكرا لهذا المقال الرائع … استمتعت بقرائته !