قصة قصيرة – مبكى الأقدار

705

لم تكن نوبات السعال بهذه الشدة مسبقاً، فكما لو أنَّ الصدر يُنتزع من الجسد ويُقذف بعيداً في جهة الرذاذ المنتشر في وجه أخيه عُمر المستلقي بجانبه. إلَّا أنَّ ذلك لم يكن ليوقظ أخاه لِحُسن الحظ، فقد كان حمل عُمر على النوم من المهام اليومية الشاقة التي تُلقى على عاتقه أو عاتق والدته في كل ليلة. لكن رغم ذلك، يشعر محمد ذو العشر السنوات بأخيه ينهض من جانبه، وبضوء السراج يعلو. كان محمد ذو وجهٍ ممتلئ وسحنةٍ بريئة، وإن اعطته تلك الصفرة التي صبغت وجهه مظهر المريض السقم. كما أنَّ وجنتيه كانتا تتزينان بنمشٍ ينتشر إلى أعلى وأسفل. فيصل العينين المسودتين إرهاقاً وتعباً. كما ينتهي النمش عند فكيه العريضين عظيمي الجمال لطفلٍ في مثل عمره. وعلى عكس وجهه، لم يكن جسد محمد بالممتلئ. فهو رغم ولادته طفلاً ذو حجمٍ بارز، إلَّا أنَّ هبوطاً في الوزن قد صاحبه ما مدته أشهر الآن.

 تقلب محمد تحت اللحاف و هو يشعر بالإرهاق والألم. فعلاوةً على السعال الجاف المصاحب لسائلٍ أصفرٍ يصعد في جوفه مع كل سعلةٍ، كان شعور الوهن العام يجتاحه في أعضائه جميعها. فلم يعد قادراً على اللحاق بأخيه كما اعتاد في محاولةٍ للتحايل عليه بغية مشاركته لعبته الجديدة، والتي حصل عليها من سيدةٍ مجهولة الاسم والأصل. ومن حينها كان محمد قد طبع على نفسه وسم الغير محظوظ، أو الأقلِّ حظاً على الأقل. وجعل يرددها وسط كل جمعٍ وفي كل ساعةٍ متاحة. فأنَّى لأخيه أن يحصل على هذه اللعبة سواه!؟

(Photo by Nicolas Economou/NurPhoto via Getty Images)



لكن تلك لم تكن أول تجربةٍ لمحمد مع مفهوم القدر. فكلماتٌ ككيف ولماذا لا تُطرح كثيراً فيمن هم في مثل سنِّه، وإن طُرحت، فيكون ذلك في سياقٍ أكثر تبسطاً وسطحية. لكن تجربته الأولى كانت وليدة ذكرى نهضت في ذاكرته من أثر السكون الذي انتشر في خيمتهم في إحدى أيام الربيع الأقل قسوةً من غيرها. فكان حينها يستأثر بالخيمة، متربعاً على عرشها. يرمي بنظره على محتوياتها، فيعلو في نفسه شعور الأنفة والاختيال. يتخيل نفسه أميراً لملكٍ عظيم، أو ملكاً ينضح رقاً وجمالاً، كان قد سُلب منه حقُّ أجداده ومن سابقهم من أجداد. إلَّا أنَّه ها هو ينهض من سكونه ويعتلي حصانه المُتخيل ويركبُ مبحراً يريد استرداد ما سلبته منه الأيام وجموع القوم!

لكن السكون الذي ملئ الخيمة، خرَّب تتبع المشهد الطفولي في مخيلته، فأيُّ أميرٍ أو ملكٍ يرحلُ في رحلته هذه ولا تتبعه أصوات الأبواق وجموع الجماهير من خلفه؟ وأيِّ أميرٍ لا يتردد اسمه في حناجر الفتيات الحسان والصبيان الأغرار، وكل همِّهم أن يقتدوا بمن هم في مَثَله وشبيهه!؟

بل إنَّ هذا السكون يُحيي ذكرى ضجيج بيتهم ذو الجدران الاسمنتية والأسقف التي لا تتأثر ببلل المطر ولا تميلُ كما تشتهي الثلوج في كل موسم شتاء. بل وإنَّ هذا السكون الغير حضاري يترجم خُلو الخيمة من أيِّ أجهزةٍ كهربائيةٍ أو الكترونية. فكانت حياتهم تتسم بالبساطة المؤلمة، تلك التي لا يُكتب عنها بحنينٍ نوستالجي في ساعات الليل المتأخرة.

فما كان من أمره إلَّا السؤال ليته يجد ضالته في اجابةٍ من فاه أمِّه وهي العالمة بكل شيء:

“فلما حدث ما حدث؟ ولم اُختصينا نحنُ بما حدث دون غيرنا؟”

 لكن محمد لم يدري بأنَّ الإجابة ستكون مقرونةً بالدموع التي بذلتها أمه بسخاءٍ محاولةً إيجاد صوتها بين العبرات وهي تقول متحشرجةً تُنشد الله:

“ذاك من رمضاء الطغاة ونار الغزاة”

لم يكن لتلك الإجابة مرادفاً في معجم محمد الذي دفعه الملل إلى الركض والانسحاب مستعجلاً إلى خارج الخيمة وهو ما يزال يسمع شهقات والدته المتتالية ألماً وحزناً. إلَّا أنَّ ألم صدره حمله على التوقف مانعاً إيَّاه من الاستمرار بالركض. بل وأجبره على الجلوس متجنباً سقطةً مدويةً قد تتسخ على أثرها ثيابه الصوفية العثًّة. لكنه شعر كما لو أنًّ ساقيه قد تآمرتا عليه، دافعتين إيَّاه للسقوط. فهوى على عقبيه لا يدري على أيَّ جنبٍ يميل.

أراد محمد الصراخ، إلَّا أن اعتصاره لم يُخرج أيَّ صوت، إلَّا شعور الألم الذي أخذ يقبض على صدره كما لو أنَّه يتكاثر متعجلاً. فينشر فيه ما لم يشهده جسده الفتي قبل الآن. فيتدحرج متوجعاً وهو يأنُّ ممسكاً عند بطنه، تاركاً آثاره مطبوعةً على التراب.

فلم يدرِ محمد في تلك الساعة قبل ما يزيد عن شهرين وهو يقضي إحدى ساعات لهوه مع أقرانه، معلناً برجولةً طاغيةٍ، أو كما تخيلها و أرادها هو، أنَّ مآل قراره هذا سيدفع به إلى حتفه. فهو وإن كان طفلاً، عمد دائماً إلى قبول التحدي. ولا ندري إن كان ذاك من خصاله التي وُلدت معه، أم أنها بعض ما اكتسبه في سنوات نزوحه هذه. فالمفجوع بأمرٍ أو محبوبةٍ أو نزوحٍ، يهون عليه بعدها ما قد يهابه غيره. فهبَّ محمد مسرعاً يقفز في الحفرة الموحلة المتروكة من أثر القذائف المُلقى بها من السماء على الخيام العزّل.

(Photo by Nicolas Economou/NurPhoto via Getty Images)

 فعديدةٌ تلك التي تحفر آثرها على سطح الأرض وفي باطنها. فتمتلئُ بما تيسر من مخلفات وفضلات تمتزج موحلةً مع ماء المطر. وكذلك كانت الحفرة الني قفز فيها محمد، بنية اللون، لزجة المياه، وكريحة الرائحة. فيُثبت لمن حضر، أنَّه هو حقاً ذاك الأمير الجريء عظيم الشجاعة. و الذي رسم لنفسه بمخيلةٍ طفولية أنَّه سيغدو محور الحكايات ومقاصد القصص في مقبل الأيام القادمة.
قفز محمد، يمسك عن نفسه آثار الغثيان من الرائحة، ويدفع عن قدميه البقايا اللزجة التي علقت بساقيه. لكنَّه وإن لم يعلم، لم يستطع إبعاد كل ما يضرَّه بحركة قدميه. بل إنَّ العديد من الطفيليات الغير مرئية على عيونه وإدراكه قد دخلت تستعجل الضرر والإيذاء.

وذلك ما آل إليه الأمر بعد شهورٍ من السعال والحمى، والتي دائماً ما يكون تسميتها في لغة المخيم، بالزكام القوي، الذي لا يكاد ينجلي. فنادرةٌ تلك العناية الطبية المتخصصة في تلك البقعة البعيدة من الأرض عن كل ما هو أساسيٌ وبديهي.

خرجت أم محمد مهرولةً في زيِّها الفضفاض و شالها الملون تلبي النداء و الصوت المنادي عليها بنبرةٍ تخيف كل من يسمعها. فوجدت محمد و هو مركزُ دائرةٍ بشرية من النساء الباكيات والرجال المرددين عباراتٍ تُنعى على أثرها الروح إلى بارئها. فهرعت أم محمد ملقيةٍ بنفسها في جهة ولدها باكيةً إيَّاه، وهي تلقاه مبيض العينين، جليدي الحرارة و شفاه سوداء مبللة بسائلٍ أصفر يخرج من فمه. فضمته إليها وهي تشعر بجسده لينٍ طريٍ، فتضرب بخشونةٍ على صدرها، ترتجي ما تدرك استحالته. لكن أنَّى للإدراك وللعقلانية في فاجعةٍ بحجم محمد. طفلٌ لا يكاد يموت إلَّا وهو يسأل عن القدر وعن أساليبه! بكت أم محمد وهي تضمُّ بناتها الاثنتين، وبكى من خلفها العديد، ومن بكى أبكى وأستبكى أهل المخيم قاطبةً…


تتبع….


المؤلف: محمود شعار
سوري الجنسية مقيم في مدينة أوسلو. طالب هندسة مدنية في سنته الأخيرة بجامعة أوسلو OsloMet .


مبكى الأقدار هي الجزء الثاني من سلسلة قصص قصيرة يكتبها محمود الشعار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *