الحجر الصحي واضطرابات ما بعد الصدمة

532

كتب المقال:
أمينة سيجيتش سليموفيتش: ولدت في البوسنة والهرسك، وجاءت إلى النرويج كلاجئة في عام 1992. تخرجت من جامعة أوسلو وحصلت على درجة الدكتوراه في كلية اللاهوت.

تعمل اليوم كمحاضر جامعي في Høyskolen i Innlandet ، في قسم (الدين والفلسفة والأخلاق)


الحجر الصحي واضطرابات ما بعد الصدمة

التواجد في الحجر الصحي، وعدم القدرة على التنقل بحرية حتى في بلد آمن كالنرويج، سيعيد لكثير من المهاجرين ذكريات غير مستحبة

في عام 2020 حاول عدد لا يحصى من المقالات الصحفية نقل مدى صعوبة الوضع في هذا العام. هناك العديد من الأسباب للاعتقاد بذلك، فلدينا ما يسمى أزمة المهاجرين، وكذلك عمليات التطهير العرقي للأويغور في الصين، وضف على ذلك الحرب في اليمن وفي سوريا، والعديد من المآسي الأخرى التي استمرت لسنوات وتفاقمت بسبب انتشار وباءٍ عالمي.

ليس من الخطأ القول بأن الوباء والتحديات المختلفة التي واجهها المجتمع الدولي في الأشهر الستة الماضية كانت صعبة للغاية. فكما يبدو فإن العديد من البلدان تكاد أن تنهار تحت وطأة العبء، في حين أن دول أخرى كالنرويج، تكافح في مجالات معينة ولكنها ما زالت تدير الأمور بشكلٍ جيدٍ. وفي الوقت نفسه كانت الوباء وتبعاته أثقل على بعض المجموعات عن غيرها. فأولئك الذين يقعون في مجموعات الخطر، والتي لها تصنيفات مختلفة، وأولئك المتواجدين في خطوط الدفاع الأمامية كالعاملين في مجال الصحة وعمال المتاجر، يجب القول عنهم بأنهم واجهوا الأصعب في الأمر. وهناك أيضاً الكثير من الوافدين الجدد والمهاجرين الذين مروا فعلاً بظروفٍ صعبةٍ جداً قبل قدومهم إلى أوروبا، إلى النرويج فيما إذا حالفهم الحظ. هؤلاء المهاجرين لا يواجهون فقط صعوبة تدابير كورونا، ولكن أيضاً يواجهون الذكريات التي يمكن أن تثيرها هذه التدابير.

 بالنسبة لي، وعلى الرغم من تواجدي في النرويج لمدة 30 عاماً، فلقد فكرت كثيراً في ذلك الوقت الذي كنت فيه طفلاً باحثاً عن اللجوء.

في كثير من المناسبات أعادني هذا الربيع وبشكل أكبر مما أرغبه إلى عام 1992, وقام أيضاً بلفت انتباهي إلى الأطفال الذين يعيشون اليوم حالة الهرب واللجوء. وعلى الرغم من أن هناك الكثيرين ممن يحتاجون للرعاية والصلوات، فقد وجدت نفسي أفكر بشكلٍ أكبر في هؤلاء الأطفال الذين عانو الكثير في الأساس، ويتوجب عليهم إضافة إلى ذلك تحمّل الخوف من انتشار فيروس كورونا.

إن الشعور بمعاناة اللاجئين وخاصة الأطفال منهم هو رد فعل يمتلكه معظم الناس، ولكن في نفس الوقت لا يمكنني التوقف عن رؤية الصلة بين مصيرهم ومصيري، منذ أن قمت أنا وأمي بالسعي وراء الأمان في النرويج. فلقد هربنا من التطهير العرقي والإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك، وشعرنا بالارتياح لمجرد وصولنا إلى أوسلو آنذاك. فبعض الأمور هنا أصبحت أسهل مما كانت عليه هناك، بينما أصبح بعضها الآخر أثقل.

مثل الكثير من الفارين من الحرب، فقد تركنا العائلة والأصدقاء، والناس الذين أحببناهم وكنا نخشى خسارتهم. ففي كل يوم كنا نجلس أنا و أمي وحدنا في شقة أختي و نفكر فيما يجري في برييدو , المدينة الصغيرة التي أتينا منها, كما فكرنا في الحال التي كانت عليه كاراكوفو, القرية التي أحببناها و التي تشبه في خصوبتها القصص الخيالية . كانت أفكارنا تدور حول شعبنا، فهل هم بخير؟ جلسنا معاً، لكن وحيدين. لم نقم بالتحدث بالطريقة التي يقوم فيها شخص بالغ بالتحدث مع طفل صغير محاولاً معرفة تطلعاته إلى المستقبل، بل كنا نحاول معرفة فيما إذا كان أحبابنا على قيد الحياة. ففي بعض المرات حاولت أمي قراءة فناجين القهوة، وفي بعضها الأخر قامت برمي حبات الفاصولياء.  فقد رمت أمي الفاصولياء من أجل هذا وذاك والكثيرين, و صلّت لساعات عديدة من أجلهم. كان هدف أمي الكشف عن المصير ورؤية المستقبل ومن أجل ذلك قامت بالصلاة على أكثر من 41 حبة فاصولياء بيضاء. إن رمي حبات الفاصولياء هو تقليد قديم في البوسنة والهرسك، ففي ذلك الوقت كان مألوفاً بأن يقوم النساء والرجال بقراءة مستقبلهم أو مستقبل الآخرين.

أتذكر جيداً إحدى المرات التي حاولت فيها أمي معرفة مستقبل أحد أبناء عمومتي، حيث كان كلينا سعداء للغاية، لأن رموز الأمل البيضاء التي رمتها أمي وقامت بالصلاة عليها قد أظهرت علامات جيدة للغاية. قامت أمي بتقسيم وفرز حبات الفاصولياء على قطعة قماش حمراء، لقد سقطوا على نحوٍ جيد، هذا ما قالته أمي قبل أن تقوم بتغطية حبات الفاصولياء بقطعة قماش حمراء أخرى لتضعهم جانباً.
لم يكن ممكناً لمس هذه الحبات فلا يجب إزعاج القدر. بعد عدة أيام ولربما بضعة أسابيع، لست متأكدة، لكنني أعتقد أنه كان في يوليو من 1992, وصلتنا معلومةً بأنه تم إعدام ابن عمي، ومنذ ذلك الوقت لم تقم أمي برمي حبات الفاصولياء لقراءة المستقبل. بل جلسنا في تلك الشقة كقادمون جدد ليس لديهم الكثير.

كنا أنا وأمي من أوائل اللاجئين الذين وصلوا إلى النرويج هروباً من الحرب في البوسنة والهرسك، ولم تكن السلطات مستعدة تماماً لاستقبالنا. فلم يكن مؤكداً أين سنعيش، أو عما إذا كان من الممكن نقل عائلاتنا إلى النرويج، كشكل من أشكال لم شمل العائلة. بعد مدة من تواجدنا في الشقة، غامرنا بالخروج من الحجر الذي فرضناه على أنفسنا و قمنا باكتشاف الجزء الشرقي من أوسلو. على الرغم من أنني أتذكر أن تلك الأيام كانت مليئة بالكثير من الخوف وعدم اليقين، بسبب ما يحدث في البوسنة والهرسك، أو ما سيحدث لنا هنا في النرويج لكنني أتذكر بأن ذلك الصيف كان جيداً ودافئاً عندما أقدمنا على الخروج من الشقة.

أخذت على عاتقي أن أتذكر كيف جلسنا أنا وأمي في الشقة بينما كانت أختي وزوجها في العمل. لقد كنا بأمان، لكن في الوقت نفسه كنا مثقلين بالقلق وعدم اليقين اتجاه ما يجري وما سيأتي به المستقبل. هذه المشاعر تعكس وبنواحي كثيرة الوضع الحالي في ظل فيروس كورونا، فهناك القليل مما نحن متأكدون منه والكثير من التحولات السريعة.

خلال الصيف كنت في البوسنة والهرسك، ودارت المحادثات مع لاجئين سابقين لمقارنة الوضع في عام 1992 مع الوضع الحالي. فعلى الرغم من صعوبة المقارنة بين الحرب والوباء، إلا أن المحادثات ركزت على توضيح الصعوبات الحالية والصعوبات التي كانت في وقت الحرب. أكتب كلمة صعب، لعدم وجود كلمة أفضل للاستخدام في هذا السياق، لكن الفكرة الأساسية تدور حول فهم الشيء الذي يجعل الحياة تستمر بشكل جيد حتى في أصعب الظروف.

لقد ضحكنا من تخزين ورق التواليت، يقول أحد الجيران، لم نفكر بهذا الأمر عندما فررنا من الحرب! لكن الزيت والطحين كانا مهمان وكذلك القهوة، فكّر جيران آخرون في العيش في الخارج حيث لا يعرفون النظام هناك وغير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم. ولكن كما أشار أحدهم فإن الخطر أكثر واقعية ًبسبب تركه لآثار جسدية، فقد مات الكثيرون وأُحرِقَت المنازل، ونزح آخرون. هذه الآثار ما زلت أنا والناس الذين تحدثت معهم نحملها وتعيش معنا، فهي تعيش في داخلنا وتعود لتظهر مرة أخرى عند وجود المؤثر الملائم.

الآن بينما أنا جالسة وأكتب، فإنني مندهشةٌ لأننا لم نتحدث كثيراً عن أولئك الذين يموتون من الوباء. لقد قمنا بالنظر إلى الوراء طوال الوقت، ولم نشعر حقاً بالقلق حيال الخطر الذي يمثله فيروس كورونا. ولكن في الوقت نفسه، فإنه من الممكن أن نفهم كيف أنه من الممكن أن يكون للأزمات والتحديات الجديدة تأثيراً لإعادة الصدمة. لقد خشي الكثير من عواقب الوباء، ولكن في مجتمع غير مستقر أصلاً كالمجتمع البوسني فإن جميع الأزمات ممكن أن تكون ساحقة. فالبوسنة والهرسك هي إحدى الدول الغير مستقرة، والتي ستكافح لسنوات من أجل التعافي.

لقد جلب وباء كورونا معه العديد من التحديات الجديدة للمجتمع الدولي، فلا نعرف تماماً متى وأين ستكون نهاية الوباء. في الوقت نفسه، نعلم أن هناك الكثير منا، هنا في النرويج أيضاً، لا يتعايشون فقط مع الوباء ولكن أيضاً مع الذكريات الثقيلة الأخرى التي تستحضرها حالة عدم اليقين والخوف. فنحن مجموعة ضعيفة بطريقتنا الخاصة، وآمل أن نتجرأ على الحديث عن الذكريات وكل ما تجلبه معها، وألّا ندع هذه الذكريات تتغلب علينا.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *