قصة قصيرة – بيانو الخيمة

1901

يضرب بكفيه الفتيتين على مفاتيح البيانو المتغيرة ألوانها وفق نسقٍ متكرر لا يغير من ايقاعه، شأنه شأن النغمات الصوتية المتكررة، والتي تزداد عمقاً مع كل مفتاحٍ يضُرب إلى اليسار من مفاتيح البيانو السوداء والبيضاء. يقلب أصابعه بين المفاتيح المتمازجة، وعيناه تتبع الورقة المليئة بلغةٍ لا يفهمها إلا من تعلم أبجديتها. فأحرف هجائها لا تتجاوز الثمانية أحرفٍ، يشكل جمعها مؤلفاتٍ يستمتع عُمر بعزفها. فيحرك شفتيه الرقيقتين وهو يردد الأحرف الموسيقية في جوفه، كما تتبع عيناه الواسعتين والمنفتحتين على بؤبؤيين أسودين ينعكس منهما الضوء، فتبدوان للناظر كما لو أن الفضاء استقر بجمعه في هاتين العينين، بين ورقة  “النوتة” وأماكن العزف.

لم يكن عُمر قد تجاوز أعوامه الثمان إلا ببضعة أشهر. ولكنه أتقن العزف ما قضى غيره أعواماً من العزف والتدرب. لكن عُمر كان يسكن على موهبةٍ جليةٍ من العزف الانفرادي “السولو” برزت منذ أول مرةٍ لمست يداه مفاتيح البيانو. ومن حينها لم يغادر المقعد المرتفع عن الأرض أعلى قليلاً عن المألوف لقصر قامته، وهو يعيد تكرار المعزوفات الشهيرة التي لا يدري أسمائها ولا أسماء مؤلفيها. تململ عُمر في مكانه وهو يطلق تنهيدةً تنم عن شعورٍ بالحر وعدم الارتياح، فأطلق إحدى يديه وحرك بها قمة ياقة قميصه الأبيض وهو يحرص على استكمال يده الأخرى ما خلفته اليد الأولى. لكن ذلك لم يبعث بالقدر المُرجى من الراحة، بل شعر أن الحر يتملك وجهه، بينما تنتشر برودة ُ قاسية ُ في قدميه. فعمد يحك أصابع قدميه ببعضهما، ثم وجها قدميه أيضاً، لكن ذلك لم يكن ليوقف البرودة التي أرجفت جسده وحملته على التوقف عن العزف. وكما يميلُ الإنسان للفطرة الإنسانية ولردود الأفعال المحفورة فينا كبشرٍ على اختلاف ألسنتنا ومنابع ثقافتنا، عمد عُمر إلى الصراخ باسم والدته كونها أول ما خطر على باله. وذاك أيضاً من الفطرة البشرية في الطفولة.

Mozart
Photo Rischgitz/Getty Images

استمر عُمر بالصراخ حتى شعر أنه قطع كل حباله الصوتية، وكاد يستسلم للخوف الذي عظم أمامه، لكن صوت أمه أسعفه وهو يشهق شهقة الغريق إذا وصل اليابسة. كان أول ما شعر به راحة كف والدته وهي تنتقل بين خصال شعره البنية والتي زاد ضوء السراج من لمعانها. أحال بنظره إلى أسفل ساقيه، حيث البرد قد تسلل، فوجد الغطاء الرث وقد كشف عن قدميه تاركاً إياهم عرضةً للبرد القارس.

أمّا أخاه الذي كبره سناً بعامٍ ونصف، فكان ينفث في وجهه زفيره الساخن ذو الرائحة غير المحببة.
قبضت أم عمر على يد ابنها زارعةً إياها تحت الغطاء، مستعيذةً بالله من كل أذى وحاملةً عُمر على النوم من جديد.

لم يكن عُمر ليستلقي مجدداً حتى شعر بضرورة تحسس أكفه من أثر العزف الغير المنقطع. لكنه سرعان ما أدرك بوعيه اليافع بأن ما كان، لم يكن إلا حلمٌ لا يكاد يكون من واقعه شيء حقيقي إلا شعور البرد المتسلل إلى الخيمة، والتي قاست ما أشده من أحوال الطقس المتتابعة برداً وحراً على مدار العام. إلا أن شعور الخيبة أيقظ في نفس عُمر سيلاً من الدموع حاول إخفائه ما استطاع، فلم يكن لذاك الحلم أن يمر، إلا وذكرى البيانو تنهض في ذاكرته لتزيد من حزنه و أساه على ما ملك يوماً.

 فعمُر كان كسائر أطفال مخيم “أبو طُعوُم” يستقبل الحياة بذائقةٍ ساذجةٍ متواضعةٍ في متطلباتها. فمن لم يدرك الكثير، يرضى بما أقله. وعمر لم يكن ليدرك أكثر من ملمس الطين الأحمر وعديد ظلال شجر الزيتون الذي تشتهر به محافظة ادلب الشمالية الغربية في سورية. فكان ذاك بعض تسليته هو وأقرانه. فكما كان الطين مادة الإنسان الأولى في تشكيل ما أراد من الأدوات، كانت كذلك لعُمر لصقل بعض الأشكال التي سرعان ما تتراخى وتسقط إلى الأرض التي قدمت منها. وعلى بساطة ما كان، كانت تلك من أحب ما أدرك عُمر من أساليب اللعب. فالجمال والمتعة هي أمرٌ موضوعي لا يتفق عليه سائر البشر، بل هي في عين الرائي لا في حقيقة المرئي. وكذلك كان لعُمر الذي كان يستغل أشهر الربيع، حيث الطين طريٌ لينٌ وصالحٌ للهو، رغم ما يحمله عقباه من تقريع والدته على شدة اتساخه.

إلا أن أمراً جللاً ذهب بعمر وبعديد أهل المخيم إلى التجمع والتجمهر أمام الزوار القادمين بعرباتهم العالية وبأدواتهم عديدة الأنواع والأشكال. فبعضها يحُمل على الأكتاف فيما يلحق حاملها بأحدهم، كما لو أنه لا يستطيع مغادرته. وأخرى طويلةٌ تنتهي بريشٍ تقُرب ما أمكن إلى فم المتكلم، وغيرها العديد. لكن التجمهر الأعظم كان لسيدةٍ تقبل على الناس بحذر وحيطة. وأمام هذا الجمع الغفير من الناس، استطاع عُمر أن يسلك طريقه إلى المقدمة، مستعيناً بصغر حجمه وقدرته على التسلل بين الأقدام. حتى وصل المرأة التي عمدت إلى التربيت على كتفه والتحدث معه بلغةٍ لم يفهمها. حتى علا صوتٌ من خلفها يسأله ُ بصوتٍ أجش أن السيدة تسأل عن حاله. فلم يكن رد عُمر سريعاً وهو لا يزال يحرك عينيه بين المرأة والرجل خلفها، حتى فتح فاه على “الحمد لله” ثم استقبل بين يديه كيساً شفافاً يصدر صوتاً عند تحريكه كانت المرأة صاحبة اللغة الغير المفهومة قد أخرجته من علبة كبيرة من الألعاب. حمل عُمر اللعبة وأطلق ساقاه للريح يحاول النجاة بلعبته التي لا يدرك بعد ماهيتها من أعين وأيدي المتطفلين. حتى إذا وصل الخيمة، حدق بالمستطيل الموزع قسمه الأدنى بمستطيلات أصغر ذات لون أبيضٍ وأسود. نقر على أحدها، فأصدرت صوتاً فاجئ عُمر وأسعده. فارتسمت بسمةٌ بريئةٌ متشوقة ٌ وهو ما يزال يمسك البيانو اللعبة بحذرٍ شديد.
قضى عُمر بعض الساعة التالية يضغط على المستطيلات الصغيرة مستمتعاً وهو ما يزال يعجب للصوت الصادر عنها. حتى أقبلت والدته وهي تستهدي إلى جهة الصوت، فقص عليها عُمر طريقة حصوله عليها وهو ما يزال يحمل اللعبة بين يديه. راجياً أمه ألا تجبره مشاركة أخيه وأختيه بها.

قضى عُمر جل صيفه في الخيمة مبتعداً عن الطين وهو يحاول فك شيفرة الأصوات وترتيب خروجها، بعد أن سمع من والديه وبعض أقرانه الأكبر سناً عن ماهية البيانو، وكيف أ ن له أحجاماً ضخمة يجلس العازف إليها ليعزف بالساعات.

ATMEH, SYRIA – SEPTEMBER 17 (Photo by Burak Kara/Getty Images

وكيف أن الصوت يخرج من أثر ارتطام رأسٍ نحاسي على جمعٍ من الأوتار. ليس كالبيانو اللعبة الذي يحمله والذي يعمل بالبطاريات ولا يكون صوته على درجة نقاوة صوت البيانو الأصلي. إلا أن ذلك لم يكن ليثبط من عزيمة عُمر الذي أخذ يحلم مراراً وتكراراً وهو يعزف بنفسه على بيانو الأوتار الضخم.

إلا أن وقت الصيف قد مضى، وضراوة الشتاء قد أقبلت على سكان المخيم العزُل من أي بناءٍ حجري أو اسمنتي يقيهم هول الأمطار وشدة الريح. فلم يمضي ما يزيد عن أربعة أشهرٍ منذ يوم البيانو، حتى استيقظ عُمر على صراخ والدته وهي تصرخ وتحمل سكان الخيمة على مغادرتها قبل سقوطها وسحبها إياهم إلى مجرى الفيضان. كان الأولاد وقد قذفهم أبواهم أول من خرج يحيلون بنظرهم إلى الخيام المجاورة وقد فعل سكانها فعلهم. فكانت الصرخات تعلو عند من انتبه متأخراً للمياه وهي تملأ الأرض وحلاً ثم فيضاناً يسحب بصاحبه إلى مجرىً يصعب إخراجه منه. وما إن خرج أبوا عُمر وهما ما يزالان في طور الرعب والدهشة، حتى صرخ عمر كمن يشعر بأضلاعه تتكسر مستحيلةً إياه إلى كتلةٍ من ألم، إلا أن الألم لم يكن من أضلاعه، بل من شعور الأسى وقد نسي لعبته في الداخل. حاول عُمر حمل والديه على إحضاره إياها ببراءةٍ طفولية لا تستطيع إدراك كارثتين معاً، كارثة الخيمة التي يسكنون وكارثة البيانو اللعبة…

استسلم عُمر في آخر الأمر لأمر والدته ولطلب النوم على أجفانه الفتية، واستلقى حيث اعتاد من زمنٍ الآن. فكان مكانه يتوسط أخاه الأكبر سناً والذي بدوره يجاور أختين أكبر سناً. أ ما الجهة الأخرى من عُمر، فكانت مكان والدته التي التحفت ببعض اللحاف هي وزوجها، تاركين الجزء الأكبر للأطفال.

تتبع


المؤلف: محمود شعار

سوري الجنسية مقيم في مدينة أوسلو. طالب هندسة مدنية في سنته الأخيرة بجامعة أوسلو OsloMet .

اترك رداً على غنى علي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 thoughts on “قصة قصيرة – بيانو الخيمة

  1. رائعة بانتظار التكملة